رحلة استكشافية في أوكرانيا الممزقة تحت وطأة الحرب
Чтобы прочитать статью на русском языке, нажмите ЗДЕСЬ
Український переклад незабаром
سافر أحد أعضاء مبادرتنا إلى أوكرانيا في أبريل/نيسان 2024. وكان الهدف من هذه الزيارة الأولى هو الالتقاء بالجهات الفاعلة من المجتمعات المحلية المعنية، لفهم السياق العام للغزو الروسي لأوكرانيا والحالة الذهنية للسكان المحليين بشكلٍ أفضل، وكذلك لمعرفة ما يتم القيام به من مبادرات التضامن الشعبي وتحليل احتياجاتهم.
كنت قد زرت أوكرانيا من قبل، ولكن ذلك كان منذ وقتٍ طويل، في طريقي إلى روسيا، حيث كنت أسافر كل عامٍ تقريبًا لمدة اثني عشر عامًا. كان ذلك أيضًا قبل الانتفاضة الشعبية الأوكرانية وقبل الحرب. أنا أتحدث اللغة الروسية بطلاقة ولعدة سنوات كانت لي علاقات مع نشطاء سياسيين تحرريين من بيلاروسيا وروسيا، الذين يناضلون ضد شمولية الدولة الروسية وإمبرياليتها على حدودها الخارجية. منذ اندلاع هجوم عام 2022، كنت أحصل على أجزاء من المعلومات الهامة من معارفي في المنطقة، ولكن ولأكون صادقًا تمامًا، فإن فهم ما هو على المحك كان ولا يزال مستعصيًا على المجتمعات الأوروبية، بما في ذلك النشطاء السياسيين. وعلى الرغم من معرفتي الجيدة بالواقع الاجتماعي والجغرافيا السياسية في المنطقة، حيث عملت لسنوات مع مجتمع اللاجئين الشيشانيين، إلا أن ما تنطوي عليه هذه الحرب لا يزال لعبة تخمين. لفهم ذلك، عليك أن تذهب إلى هناك.
في أبريل 2024، استقليت الحافلة إلى وارسو، ثم القطار إلى كييف. وقد كتب لي اثنان من المعارف المحليين ليقولوا لي أنهم يرحبون بقدومي.
كييف، ” BeSt “
أولاً، التقيت مع باشا وستاس وكسينيا وميشا في استوديو خلف مبنى متهدم في حي “شيفتشينكو” في كييف. سوف تتردد وجوه أخرى كثيرة على هذه الغرفة الصغيرة خلال فترة إقامتي القصيرة، لكن محادثاتي ستكون بشكل أساسي مع هذا الرباعي.
إنهم ليسوا مناضلين. بالنسبة لهم، يبدو التنظيم السياسي لعبة تمثيلية طائفية ومضيعة للجهد، وهم ببساطة يتركون الأمر للآخرين. كما أنهم ينحدرون من بلدات الأقاليم. في بداية الغزو الروسي، كان باشا وكسينيا قد افتتحا صالون تجميل، وكان ستاس مصفف شعر وموسيقيًا، وكانت ميشا مصممة جرافيك. أوقفت الإمبريالية الروسية مشاريعهم بشكل مفاجئ، ووجدوا أنفسهم في كييف بحكم الضرورة واللقاءات العرضية، ولأن رغبتهم في مقاومة الاستعمار الروسي والتضامن مع أصدقائهم الذين ذهبوا للقتال دفعتهم إلى توحيد جهودهم في مشروع مشترك. يعمل باشا على تطوير أجهزة وأنظمة إلكترونية تساعد المقاتلين على المقاومة والبقاء على قيد الحياة في الجبهة. يساعد ميشا في الأعمال اليدوية اللازمة لتشغيل المشروع، بينما يساهم ستاس في أعمال هندسة الكمبيوتر. ويساعد أشخاص آخرون في الأعمال اليدوية واللوجستية.
وحده ميشا عاش تجربة الميدان (الانتفاضة الشعبية في 2014)، وبالنسبة له تبدأ القصة من تلك المرحلة. أما بالنسبة للآخرين، فهي لا تلعب دورًا حاسمًا فيما يحدث اليوم. “المشكلة الروسية” أقدم من ذلك بكثير، فهي موجودة دائمًا في مكان ما. يبدو ستاس الأكثر تعلقًا بهويته الأوكرانية، التي يفصلها تمامًا عن الهوية الروسية: بالنسبة له، هذان عالمان لا يجمعهما الكثير من القواسم المشتركة. وهو يضفي الشرعية على القومية الأوكرانية التي يقارنها بالأشكال الأوروبية للقومية واصفًا إياها بالفاشية. بالنسبة له، القومية الأوكرانية ليس لديها نية أوهدف لقمع الأقليات العرقية والجنسية، في حين أن النازية شرٌّ أوروبي لا يمكن نقله إلى أوكرانيا. مثل بقية أعضاء المجموعة، لديه أصدقاء من المهاجرين والمثليين، ويتردد على المشهد الموسيقي البديل، ولا يشعر بأيّ احتقار للناشطين المناهضين للفاشية، الذين يشير إليهم في عدة مناسبات باعتبارهم أحد مكونات المجتمع الذين لا يقلون شرعيةً عن غيرهم. عند الاستماع إليه، تبدو قوميته متوافقة مع الديمقراطية والانفتاح على العالم وأوروبا. تتحدد الهوية الأوكرانية ببساطة من خلال التعلق بثقافة الشعب الأوكراني ورغبته القوية في تقرير مصيره. ويوضح ستاس أن هذه الخصوصية تلخصها الكلمة الأوكرانية “VOLYA”، وهي مزيج من مفاهيم الحرية والإرادة والرغبة.
وبالنسبة للمجموعة ككل، فإن المقاومة هي مسألة مفروغٌ منها، ومن يتهرب منها يعرض حرية الجميع للخطر. فبدلاً من أن يكونوا في جبهة القتال، يقومون بتنظيم أنفسهم لتقديم الدعم اللوجستي للمقاتلين والمساعدات الإنسانية لمن تبقى في المناطق المتضررة بشكلٍ مباشر من القصف الروسي. هذه هي مساهمتهم إلى أن يتم استدعاؤهم إلى الجبهة. وعندما يحين الوقت المناسب، يقولون إنهم سيذهبون من دون تردد، على الرغم من الخوف الذي يشعرون به. ميشا هو الأكثر ترددًا؛ فهو أقل حماسًا ولا يعتقد أن مشاركته الفردية كجندي ستغير مسار الحرب التي تعتمد أكثر على التكنولوجيا وقوة الوسائل غير البشرية المستخدمة، وبالتالي على القرارات السياسية الخارجة عن إرادتنا. ويعتقد أنه سيكون أكثر فائدة من دون سلاح، في الخدمات اللوجستية أو بناء البنية التحتية. يشجعه ستاس على تعلم قيادة الطائرات من دون طيار، للابتعاد عن القتال المباشر ولأن استخدامها أصبح شائعًا في هذه الحرب. وبما أن حلفاء أوكرانيا لا يوصلون الأسلحة التي يحتاجونها للرد بشكل حاسم، فإن الطائرات من دون طيار القاتلة تحل محل الصواريخ والقذائف. من الجبهة تأتي صور على أنغام الموسيقى تُظهر كيف تقوم هذه الأجهزة الصغيرة التي يتم التحكم فيها عن بعد بإسقاط القذائف والقنابل اليدوية مباشرةً على رؤوس جنود العدو. إنه النموذج الجديد للحرب الحديثة: مئات الطائرات من دون طيار يتم تصنيعها يومياً من قبل المدنيين وإرسالها إلى الجنود على الخطوط الأمامية. وبما أن هؤلاء الأخيرين لا يزالون غير مدربين بما فيه الكفاية على استخدامها، فإن مساهمة الطيارين ذوي الخبرة تحظى بتقديرٍ كبير.
مقابلة مع ميشا (باللغة الإنجليزية)
مقابلة مع ستاس وباشا (باللغة الإنجليزية)
لكن، وبما أنّ المتطوعين يجب أن ينضموا إلى الجيش الأوكراني النظامي، فإن تخصصهم لا يؤخذ في الاعتبار عند وصولهم إلى الجبهة، وقد انتقد الأشخاص الذين تحدثت إليهم نزعة الهواة هذه من جانب هيئة الأركان العسكرية المتخلفة. ويوضحون أن الأمر مختلف مع كتيبة “آزوف” التي توفر مساحةً أكبر للمناورة. ومع ذلك، يأسف ستاس لعدم الالتزام من جانب الشباب الأوكرانيين، الذين اعتادوا بالفعل على هذه الحرب في أقصى شرق البلاد ومع ذلك يستمرون في العيش بشكلٍ طبيعي. إنه ليس متفائلاً جدًا ويقول إنه لا يوجد خيار سوى تحرير أوكرانيا بأكملها ونقل الحرب إلى موسكو، وإلا فإن روسيا لن تتوقف أبداً عن سحق جيرانها. فالاستعمار الروسي مسألة مستمرة ولذا يجب أن تنتهي وإلى الأبد: بالنسبة إلى ستاس والأوكرانيين، إما الحرية أوالموت. ومن خلال كلمات ستاس، يمكنك أن تشعر بالاستياء تجاه المجتمع الروسي الذي يتهمه بعدم القيام بما يكفي لوضع حد لديكتاتورية بوتين وللحرب. فلو كان الشعب الروسي يشعر بالرعب حقًا من هذه الحرب التي تقتل أشقائه، لكان انتفض وحمل السلاح ضد الحكومة. ستاس لا يريد أن يعرف ما يدور في أذهان الروس، الذين يراهم كجماعة غير مبالية تقبل بمصيرها وترسل الآلاف من رجالها ليُذبحوا دون أن تفعل شيئًا لمنع ذلك. تزعم الحكومة الأوكرانية أن حوالي 180,000 جندي روسي قُتلوا منذ 24 فبراير/شباط 2022، بينما يقدر عدد الجنود الأوكرانيين الذين قُتلوا بحوالي 31,000 جندي.
بينما يعبّر كل من ميشا وستاس، كلّ بطريقته الخاصة، عن تطلّع أخلاقي ونوع من الجرح الداخلي الناجم عن الغضب المشروع أو خيبة الأمل، يبدو باشا أكثر براغماتية، ملتزمًا بفعل ما يجب القيام به، دون أن يسمح لنفسه بالضرورة بالتأثر الشديد. على الأقل، هذا ما توحي به رباطة جأشه. ولعل حقيقة نشأته في عائلة عسكرية تساهم في هذه العقلانية. فخلال الأيام القليلة التي تواجدت فيها في ورشته، كان نشطاً دائماً، حيث يقوم بتشغيل الطابعات ثلاثية الأبعاد، ولحام الأجزاء ذات الأشكال غير الاعتيادية وإصلاحها معاً. عندما بدأت مقابلتي معه، وجد صعوبةً في وصف نشاطه وفضّل أن يبدأ الحديث عن غياب الدعم العسكري الأجنبي: “أين طائرات F16؟” ويمضي في وصف الشعور بالخذلان والعجز الجماعي لشعبٍ بأكمله يراقب سقوط الصواريخ بلا حولٍ ولا قوة، حيث لا توجد أسلحة قادرة على منع سقوط القنابل على البلدات الأوكرانية. ويتردد صدى هذه الملاحظة لدى العديد من الأوكرانيين الذين يصفون أنفسهم بـ”زدوني”، في إشارة إلى التمثال الشهير الذي صممه الفنان “مارغريت فان بريفورت” لمستشفى لايدن (هولندا)، والذي يمثل “مرضى عاديون ينتظرون بهدوء تشخيص حالتهم في غرفة انتظار الطبيب على أمل أن يكون القادم أفضل”. في هذه الأثناء، يتراجع الجيش الأوكراني.
على مرمى حجر، أنشأت كسينيا مشروعها الفني والإنساني الخاص بها: فهي تبتكر جميع أنواع القطع الفنية من الأشياء التي تجدها في الأنقاض أو تلتقطها من هنا وهناك، والتي تساعد في تمويل جهود المجموعة بالإضافة إلى القيام بعدة أعمال لمساعدة الناس خلف خط الجبهة مباشرةً. كما أنها تسافر إلى أوروبا لإقامة المعارض والفعاليات الإعلامية، بالتعاون مع مجموعة “Free Filmers “، وهي مجموعة من صانعي الأفلام المستقلين، وصندوق دعم أوكرانيا ” Medychka Fundraiser ” لجمع التبرعات. التقيتُ لفترة وجيزة مع ساشكو، وهو مخرج من مجموعة ” Free Filmers “، وأصوله من مدينة “ماريوبول”. لقد تحدث ساشكو عن أنشطتهم المختلفة: عرض أفلامهم ونشر الوعي في الغرب، ودعم مجتمعات الغجر النازحين في “زابوريزيا”، وإعادة تأهيل المنازل الواقعة خلف خط الجبهة، وإرسال الإمدادات الطبية للمقاتلين. وقد أعطاني قائمة واقعية وفعالة للغاية بالاحتياجات الإنسانية، موضحًا خلال حديثه أنّ المنظمات غير الحكومية الدولية غالبًا ما تكون بعيدة عن واقع هذه الاحتياجات. كانت المقابلة مقتضبة، حيث تهرّب ساشكو من أسئلتي حول تحليله الشخصي والذي اعتبره مجردًا للغاية. أتفهم ذلك: في هذا السياق، أنت لا تريد بالضرورة أن تضيع في التعقيدات النظرية. ولسوء الحظ، لن يكون لدينا وقت أيضًا لمناقشة آراء كسينيا، ولكن بفضلها تمكنت من التواصل مع بعض سكان مدينة “خيرسون”. لقد أقنعني ستاس بالذهاب إلى هناك “لأفهم حقًا”، ولكن أيضًا لأنه يعتقد أنني بحاجة إلى تجربة هذا الخوف لأعرف أين أقف في سياق الحرب. يقول إن الأمر أشبه بـ “حبة دواء تبعث على اليقظة”.
كييف، “التجمعات التضامنية” ” SOLIDARITY COLLECTIVES “
قبل مغادرتي كييف، التقيت بأعضاء شبكة أخرى ناشطة في مقاومة الإمبريالية الروسية، وهي “تجمعات التضامن”. يقع مقرها في مقر إحدى المؤسسات في منطقة “سولوميانسك”، ومن الواضح أن الهوية السياسية للتجمع تنتمي إلى اليسار الراديكالي، أي أنها لا سلطوية وشيوعية تحررية وشيوعية مناهضة للفاشية. وهي تورّد المعدات والمركبات والإمدادات الطبية للمقاتلين التحرريين على خط الجبهة، بالإضافة إلى طائرات هجومية من دون طيار يتم طلبها على شكل أجزاء وتجميعها في الموقع. تربطهم صلات جيدة بشبكات أوروبية ودولية من المؤيدين السياسيين اليساريين، وقد تم إنشاء منظمتهم اللوجستية في بداية الغزو الروسي، قبل أن تغير اسمها في يوليو 2022. لديهم أيضًا صلات مع عدد من المقاتلين التحرريين في مختلف الكتائب على طول خط الجبهة، لكنهم ينظمون بالإضافة إلى ذلك مهام إنسانية في مختلف المناطق غير المحتلة.
في 19 أبريل/نيسان، التقيت بحوالي ثلاثين ناشطًا على تلة “شيكافيتسيا” لغرس أشجار البلوط تخليدًا لذكرى ثلاثة مقاتلين “عابرين للحدود” (انترناشيوناليست) قُتلوا في 19 أبريل/نيسان 2023 خلال معركة “باخموت” وهم ديمتري بيتروف وفنبار كافيركي وكوبر أندرو. كان من بين الحاضرين مقاتلون “عابرين للحدود” آخرون عادوا مؤقتًا من الجبهة. وقد شارك والد ديمتري مشاعره وامتنانه عبر الهاتف، واتسمت اللحظة بالتواضع والود في آنٍ واحد.
Finbar Cafferkey
Dmitry Petrov
Cooper Andrew
قام سيرغي، أحد الأعضاء الناشطين في منظمة “كولكتيف سوليداريتيه”، بمنحي مقابلة قبل ساعاتٍ قليلة من سفري بالقطار إلى “خيرسون”. خلال المقابلة تحدث سيرغي عن الكمّ الهائل من العمل التضامني الذي تم إنشاؤه خلال العامين الماضيين، وتحليله للوضع الحالي. قبل الحرب، كان يدير إعلامًا سياسيًا مناهضًا للفاشية وهو يعلم أنّ حياة وحرية النشطاء أمثاله ونسبة كبيرة من الشعب الأوكراني ستكون مهددة بشكلٍ خطير في حال احتلال الجيش الروسي لأوكرانيا. وهو يعتقد أنّ لديه فرصة ضئيلة للنجاة من الاحتلال العسكري الروسي. رغم ذلك لم يتخلّ سيرغي عن مبادئه، فهو ناشط “عابر للحدود” ومناصر للمساواة والسلام لكنّه يعترف صراحةً أنه غيّر ترتيب أولوياته: لقد تم تعليق صراعات الأمس الاجتماعية والانقسامات السياسية جزئياً بسبب العدوان الروسي. لم يكن أمامه من خيار سوى التوفيق بين قيمه وواقع الحرب، من خلال المشاركة في المقاومة المسلحة من جهة، ودعم الجيش النظامي من جهة أخرى، حتى لو كان ذلك يعني الاستسلام لعسكرة العقول التي ينطوي عليها ذلك.
ومع ذلك، فإن خيار إعطاء الأولوية لدعم الرفاق التحرريين كان يعكس رغبةً في عدم الاستسلام للمنطق القومي والمشاركة في “المجهود الحربي” دون التخلي عن مناهضة الفاشية. ويعترف سيرغي بهيمنة الفكر الرجعي في المجتمع الأوكراني، لكنه يعتقد أنّ استسلام أوكرانيا، الذي سيقدمه بوتين على أنه انتصار، سيؤدي إلى المزيد من التطرف اليميني، فضلاً عن الانهيار الكامل للنسيج الاجتماعي والتهديد للأوساط التقدمية. في هذه المرحلة، المجتمع الأوكراني قد سئم الحرب بالفعل، وإذا كان سيرغي لا يزال متفائلاً، فذلك لأنه لا يستبعد انقلاب الوضع، والذي يعتمد، للأسف، على قرارات سياسية خارجة عن إرادته، وعلى وجه الخصوص على تسليم الأسلحة القادرة على جعل المعتدي الروسي يتراجع.
مقابلة مع سيرغي (باللغة الإنجليزية)
بينما أسير في أروقة كييف الضخمة متجهاً إلى محطة القطار، أواصل التحديق في حيرة إلى الملصقات التي تعلن عن الأفواج والمعدات العسكرية على طول الأرصفة: ” المجد للقوات المسلحة الأوكرانية “، ” موت العدو يبدأ عندنا: كن جزءًا من التاريخ العظيم “، ” جهاز الأمن: معاً من أجل النصر! “، “احموا أنفسكم، انضموا إلى القوات المسلحة الأوكرانية “، ” كييف التي لا تتزعزع لشعب لا يُقهر “. لم يكن الموت من أجل البلد الذي ولدتُ فيه منطقيًا بالنسبة إليّ. الموت من أجل أفكارك، ربما، ولكنّ الوطن ليس فكرة.الحرية والعدالة الاجتماعية أهم بكثير. ولكنني أعتقد في أعماقي أنه إذا كان بإمكانك ويجب عليك أن تكون مسالمًا لمنع نشوب أية حرب، فمن الحماقة (والرجعية) أن تحافظ على هذا الموقف بمجرد أن تصل الحرب إلى عتبة بابك. يبدو أن دعاة السلام وأنصار المعسكرات السياسية الذين يصدرون أحكامهم من فوق كراسيهم الوثيرة في أوروبا ضد الليبراليين الذين يقاومون الغزو الروسي، قد نسوا أن الدفاع عن النفس هو أصل مبادئ الاستقلال السياسي. وحتى لو دعمت القوى الغربية الحكومة الأوكرانية، فإن هذا لا يعني بأية حال من الأحوال أن يصبح الدفاع الشعبي عن النفس شريكًا للإمبريالية: فالمقاتلون في الجانب الأوكراني لا يشاركون في حرب غزوٍ باسم الدولة الأوكرانية، بل في حرب تحرير باسم الشعب. يبدأ القتال ضد الإمبريالية بمنع الاستعمار حيثما يتم بقوة السلاح. بعد ذلك، وبمجرد التعامل مع التهديد العسكري، سيكون هناك متسع من الوقت للتركيز على محاربة الرأسمالية والفساد واستبداد الدولة. وهناك أيضًا، للأسف، ليس من المؤكد أنه يمكننا أن ننجح من دون سلاح…
خيرسون، المدينة الواقعة خلف خط الجبهة
في القطار المتجه إلى كييف، كانت جميع هذه الأفكار تدور في رأسي: القومية، والعسكرة، والطائرات من دون طيار… لقد جئتُ إلى هنا لأنني كنت بحاجة إلى سماع ما يفكر فيه هؤلاء الأشخاص المعنيين، لأفهم بشكلٍ أفضل القضايا المطروحة وأستوضح موقفي. خلال الرحلة الليلية (تسع ساعات)، تقاسمت مقصورتي مع سيدة عجوز وضابط من القوات الخاصة. أعطاني هذا الضابط رقمه وطلب مني الاتصال به في حال واجهتني مشكلة في “خيرسون”. قبلت بدافع الأدب، دون أن أن أنوي متابعة عرضه للمساعدة، خاصةً أنه قام وبشكلٍ عفوي ودون سؤالي بمسح رقمي عبر تطبيق مخصص للتحقق من أنه لم يتم الإبلاغ عني من قبل للسلطات. بعد توقف لمدة أربع ساعات في “ميكولايف”، عدت إلى القطار لمدة ساعة ونصف الساعة. في “خيرسون”، نزلت من القطار بين جدارين سميكين من الرمال وتحت أنظار العديد من الجنود المدججين بالسلاح. على الفور، انطلقت صفارة إنذار الغارة الجوية ودوى انفجاران مدويان. في ساحة المحطة، ثم على طول الطريق المؤدية إلى الفندق الذي سألتقي فيه بالأشخاص الذين سيقومون باستقبالي، كانت المباني مشوهة ومدمرة ونوافذها محطمة أو مغطاة بألواح من الخشب، والشوارع مليئة بثقوب القذائف المملوءة بالرمال والركام. بشكلٍ منتظم، يهز المدينة انفجار تلو الآخر دون أن نعرف مكان سقوط الصاروخ. شعرت على الفور بهذا الإحساس الرهيب في عمودي الفقري، كما لو أن تهديدًا مستمرًا يتربص بي ويحثني على مغادرة المكان بأسرع ما يمكن.
أقيم الآن فيما يبدو أنّه آخر فندقٍ في المدينة. لقد تم قصفه بطائرة من دون طيار وصاروخ، لكنه لا يزال قائماً بالقرب من السوق المركزي. هنا سوف ألتقي بسيرغي آخر يدير الفندق الذي يؤوي بشكل رئيسيّ النازحين داخليًا، والمساعدات الإنسانية التي يتم تقديمها هنا وهناك، حيثما كانت هناك حاجة. بعد أن سألني سيرغي عن سبب مجيئي إلى هنا، اصطحبني معه في شاحنته في مهمة إمداد مياه الشرب. فهو يقوم بإحضار المياه من شمال المدينة، من كنيسة ضخمة في حي “تافريشيسك” التي استولت عليها المنظمة المسيحية الأمريكية غير الحكومية ” The Samaritan Purse “، ثم يأخذها إلى شرق المدينة، إلى حي “سكلوتارن”، حيث يوجد مبنى لتوزيع المواد الغذائية تحت رعاية برنامج الأغذية العالمي. وخلال الطريق، يصف سيرغي مختلف أنواع القذائف والصواريخ التي تسقط على المدينة: قنابل موجهة من عيار 500 كجم من طراز “كاب” وقنابل “فاب” من عيار 500 كجم من طراز “فاب” وقذائف أرض-أرض من عيار 122 ملم من طراز “غراد”. يرسل الجيش الروسي كل يوم أيضًا طائرات انتحارية من دون طيار، من طراز “شاهد-136” التي حصلت على براءة اختراع في إيران ثم أُنتجت في روسيا تحت اسم “غيران-2” لتستهدف المدنيين و المركبات المتحركة. يريني سيرغي حفرة خلّفها صاروخ في الأسفلت: “انظر إلى هذه، لقد سقطت قبل ثلاثة أيام. لو كنا قد مررنا حينها لكنا الآن جثتين هامدتين”.
خلال فترة إقامتي القصيرة هنا، عشتُ قلقًا دائمًا، وفوق كل شيء تيقنت أن المباني لا تحميني. لا شيء ولا أحد محميٌّ هنا، والجيش الروسي يقصف دون أن يستهدف البنية التحتية العسكرية تحديدًا. يتم يوميًا وبشكلٍ منتظم استهداف حوالي عشرين قرية على الضفة اليمنى للنهر بالصواريخ الروسية، وكذلك ضواحي ووسط مدينة “خيرسون”. يتم أيضًا تدمير المنازل وإصابة المدنيين أو قتلهم. في 26 أبريل/نيسان، تم تفجير مدرستين. أقوم بمتابعة الأخبار المحلية على عدة قنوات تيليغرام: suspilnekherson، @kherson_monitoring @kherson_non_fake و hueviyherson@. حيث يتم الإبلاغ عن جميع الحوادث والقصف، ويتم بث الصور من كلا جانبي النهر بانتظام. على الجانب الآخر، ينخرط الجنود من كلا الجانبين في حرب خنادق لم تترك شيئًا من القرى التي كانت قائمة هناك. خلال فترة إقامتي، استعاد الجيش الأوكراني السيطرة على مدينة “كرينكي”، لكنّ الصور من هناك لا تُظهر سوى لسان من الأرض المحروقة المليئة بثقوب القذائف والأنقاض.
لم أقترب من نهر “دنيبر” الذي كان قريبًا جدًا، بل حافظت على مسافة 350 مترًا. القوات الروسية موجودة على الجانب الآخر من النهر، على بعد خمسة كيلومترات، في قرية “أوليتشكي”. كلما اقتربت أكثر من النهر، كلما بدت الشوارع وكأنها مدينة أشباح: أشعر وكأنني في لعبة فيديو ما بعد نهاية العالم Fallout، أو تشيرنوبيل. المكان هادئ بشكلٍ مرعب، والشوارع مهجورة. ومع ذلك، في هذه الأرض الخالية من البشر، يسير رجل عجوز بانتظام إلى النهر حاملاً حقيبة تسوق أو يقوم بإزالة الأعشاب الضارة من مروج وأرصفة المدينة الميتة. عندما لا تُسمع أصوات انفجارات القتال والقصف، يبدو كما لو أن الطيور والكلاب تملأ الصمت بأصواتها. خاصةً في الليل، عندما يشتد القصف، يبدو الأمر كما لو أن مئات الكلاب تنبح بين الانفجارات. لكن الناس صامتون. كان عدد سكان “خيرسون” يبلغ 360,000 نسمة قبل الحرب، أما اليوم، فقد غادر أكثر من ثلثيهم.
عن طريق سيرغي التقيت بإيغور الذي أنشأ منظمة ًغير حكومية محلية تدعى “ strong_because_free “. تشغل مكاتبهم الطابق الأرضي من مبنيين في حي “كورابيلنيي”. عمل إيغور في مجال البناء في “بولندا” قبل الحرب. وفي يوليو/حزيران 2023، أنشأ جمعيته التي تقوم اليوم بالعديد من الأعمال: إجلاء المناطق التي تعرضت للقصف، مساعدة العائلات التي تضررت منازلها بسبب الانفجارات، مساعدة كبار السن والمعاقين، مساعدة الحيوانات التي كانت ضحية الحرب، مساعدة العائلات التي غمرت المياه منازلها بعد الانفجار الذي وقع في محطة “كاخوفكا” لتوليد الطاقة الكهرومائية، توزيع وجبات الغداء اليومية والخبز، توزيع الأدوية والملابس ومنتجات النظافة، والأنشطة والدروس للأطفال… وذلك بالتعاون مع مركز “سان مارتن” المسيحي ومنظمة ” أنقذوا أوكرانيا “. لديهم حافلة صغيرة وسيارة دفع رباعي ذات نوافذ مصفحة يتوجهون بها بانتظام إلى المناطق المتضررة مباشرةً من القصف لإجلاء السكان، وخاصة كبار السن الذين حوصروا تحت نيران العدو. وقد أصيبت سيارة الدفع الرباعي بالعديد من الصدمات، بما في ذلك ثقب في نافذة السائق.
وعلى الرغم من جدول أعماله المزدحم ومكالماته الهاتفية المستمرة، إلا أن إيغور يخصص وقتاً كافياً ليأخذني في جولة في أرجاء مقرهم. وقد أخذت فكرةً عن حجم العمل الذي أنجزوه في عامٍ واحد وعن ديناميكية فريقهم الذي كان يقوم بفرز عشرات الأكياس من الملابس عند وصولي. ثم اصطحبني إيغور إلى مقهىً صغير افتتحه شريكه للتو في الشارع المجاور لمقر الجمعية الخيرية. وعلى الرغم من السياق والضغط، فقد استقبلني بحفاوةٍ بالغة. لكنّ إيغور أخبرني أنه مرهق، وأنهم بحاجة إلى المزيد من المتطوعين للقيام بكل ما يريدونه. ويوضح أيضًا أنه اضطر للعيش مختبئًا في ظل الاحتلال الروسي، وأنّ احتمال عودتهم مصدر قلقٍ للجميع.
تمت إعادتي إلى الفندق في سيارة دفعٍ رباعي ذات نوافذ مضادة للرصاص. بعد ليلة أخرى من الانفجارات، أعادني سيرغي إلى محطة الحافلات. قبل أن أغادر، قام رجال الشرطة والجنود بالتحقق من هويتي ومحتويات هاتفي. شرح لي أحد الضباط بإسهاب أنه سيكون من الأنسب إبلاغ السلطات المحلية وعرض مساعدتي كمتطوع إنساني من خلالهم. ولكن قبل يومين، كانت السلطات نفسها قد أخبرتني أنها تفضل عدم الاستعانة بمتطوعين أجانب، لأسباب أمنية والمسؤولية المترتبة في حال وقوع حادث.
بعد محطة توقف في “أوديسا”، حيث دوّت صفارات الإنذار أيضًا عند وصولي، انطلقتُ مرةً أخرى، هذه المرة إلى بوخارست في الليل. نهاية الرحلة الاستكشافية. الآن يجب أن أعود إلى أرض الواقع لأستوعب جميع هذه المعلومات، وأفكر فيما يجب فعله بعد ذلك.
بعض الملاحظات التاريخية عن شخصيتين من شخصيات الاستقلال الأوكراني التي كثيرًا ما يُشار إليها.
يتألف المجمّع الوطني الأوكراني من شخصيتين متناقضتين: ستيبان بانديرا (1909-1959) ونستور مَخنو (1888-1934).
يستخدم خطاب بوتين الدعائي تاريخ أوكرانيا المعقّد لإضفاء الطابع الأساسي على الأوكرانيين، لا سيما من خلال اتهامهم بأنهم متعاطفون مع النازية بشكلٍ عام. وبصرف النظر عن حقيقة أن هذا الاختصار تشهيري وقبيح ، فإنه يستند إلى حقيقة أن القوميين قد اكتسبوا اليد العليا بوضوح على التقدميين والليبراليين في أعقاب القمع العنيف للثورة الديمقراطية في عام 2014. وينطبق هذا بشكلٍ خاص على حركتي “سفوبودا” و”القطاع الأيمن”، اللتين رحبت القوى المناهضة للحكومة عمومًا بمشاركتهما في الانتفاضة الشعبية. ويفتخر كلا الحزبين القوميين المتطرفين بتراث “ستيبان بانديرا”. بالنسبة إلى العديد من الوطنيين الأوكرانيين، لا يمكن فهم تعاون بانديرا مع النازيين بين عامي 1934 و1943 إلا في سياق النضال من أجل التحرر من الإمبريالية الروسية (السوفيتية)، التي كانت مسؤولة عن مقتل ملايين الأوكرانيين بين عامي 1929 و1933 (الديكولاكيسيزم والهولودومور). بينما يفسر هذا التحليل الدوافع المعادية للسوفييت لمنظمة القوميين الأوكرانيين بانديرا (OUN-B)، فإنه ينفي تورط مقاتليها في المذبحة التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين البولنديين واليهود في لفيف عام 1941 (حوالي 8,000 قتيل). اختلفت الروايات حول مشاركة منظمة الأمم المتحدة في المذابح، حيث ألقى الألمان القبض على بانديرا عشية المذابح ووضعوه تحت الإقامة الجبرية في برلين، قبل أن يتم إرساله إلى معسكر اعتقال “زاكسينهاوزن” في يناير/كانون الثاني عام 1942. قُتل اثنان من أشقائه في معسكر “أوشفيتز” في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، حيث فتح القوميون الأوكرانيون جبهة جديدة ضد المحتلين الألمان، بالإضافة إلى الجبهة التي كانت موجودة ضد المحتلين السوفييت. على الرغم من إنكار القوميين الأوكرانيين، إلا أن عددًا من الوثائق تشهد على مسؤولية بانديرا في التخطيط للمذابح المعادية لليهود والبولنديين والموافقة عليها. لذلك لا مجال لإعادة تأهيل بانديرا بحجة معارضة الدعاية الروسية. ومع ذلك، يجب تحديد تأثير القوميين المتطرفين على المشهد السياسي الأوكراني: في الانتخابات البرلمانية في عامي 2014 و2019، لم يفز حزب “سفوبودا” وحزب ” القطاع الأيمن”، اللذان يضم كل منهما حوالي 25,000 عضو، بأكثر من 6% من الأصوات، وهي نسبة لا تزال هامشية للغاية. أما بالنسبة للمحافظين والتقليديين والأصوليين الدينيين ومعاداة الشيوعية، فهذه قضايا أخرى ليست خاصة بالمجتمع الأوكراني…
سيكون من المثير للاهتمام أكثر الخوض في إرث “نيستور مَخنو”. فبين عامي 1917 و1921، قاد نيستور مَخنو، وكذلك “ماريا نيكيفوروفا” (وهي أقل شهرة، ولا شك أنها كانت امرأة) آلاف الفلاحين الأوكرانيين في تمردهم المسلح ضد الإمبريالية الروسية (الملكية، ثم البلشفية). في المناطق التي حررها الجيش الأوكراني الثوري التمردي والتحرري واللاسلطوي الأوكراني، اختبر ما يقرب من سبعة ملايين أوكراني مؤقتًا نظامًا سياسيًا تشاركياً من دون دولة. كان عدد “الجيوش الخضراء” و”الجيوش السوداء” يصل إلى 100,000 مقاتل في كفاح لا هوادة فيه ضد مصادرة ونهب الموارد الزراعية الأوكرانية من قبل جيوش الاحتلال الألمانية و”البيضاء” والروسية، ثم ضد الديكتاتورية البلشفية. اتُهمت الحركة المخنوفية زورًا بمعاداة السامية، وهو ما نفاه عدد من المؤرخين ولا تدعمه أية وثائق تاريخية، وقد سُحقت الحركة المخنوفية في النهاية بطريقة دموية على يد البلاشفة، الذين قاموا بعد ذلك بحملة قمعٍ لا هوادة فيها ضد جميع السكان والفلاحين الأوكرانيين. واليوم، أصبحت البلدة التي كانت المركز العصبي للماخنوفتشينا، “هوليايبول”، خلف خط المواجهة بعد أن احتلها الجيش الروسي لأقل من أسبوع في مارس/آذار 2022، وهي تتعرض للقصف المستمر منذ ذلك الحين.