سرعان ما تحولت العملية العسكرية ردًا على الهجوم الدموي الذي شنته المقاومة الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لغلاف غزة في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ إلى مسرح لجرائم حرب ضد السكان المدنيين الفلسطينيين. دعونا نبدأ بالتذكير بالحصيلة الحقيقية لهجوم حماس على عدة قواعد عسكرية ومستوطنات في جنوب إسرائيل[1] في في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ، بالإضافة إلى مهرجان موسيقي: في سياق العمل المسلح، قُتل ١١٣٩ شخصًا، من بينهم ٦٩٥ مدنيًا (من بينهم ٧١ أجنبيًا و ٣٦ طفلًا) و ٣٧٣ من أفراد قوات الأمن (٣٠٥ جنود و٥٨ شرطيًا و ١٠ من أفراد جهاز المخابرات الداخلية ”الشاباك“)[2]. كما أسرت حماس ٢٥١ رهينة (من بينهم العديد من العسكريين) من أجل ممارسة الضغط على دولة إسرائيل، ولا سيما من أجل الحصول على إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، الذين كان أكثر من ١٣٠٠ منهم محتجزين دون تهمة أو محاكمة قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر[3].
ويزعم الجيش الإسرائيلي أنه قتل أكثر من ألف مقاتل من حماس شاركوا في الهجوم انتقامًا لذلك، في حين أن التحقيقات المستقلة وشهادات عدد من المدنيين الإسرائيليين الناجين من الهجوم، تلقي باللوم على الجيش الإسرائيلي في مقتل عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين، من بين أولئك الذين نُسبوا رسميًا إلى حماس. يشير الخبراء إلى تطبيق ”بروتوكول هنيبعل“، وهو توجيه إسرائيلي صدر عام ١٩٨٦ يدعو إلى تجنب قدر الإمكان الحاجة إلى التفاوض على إطلاق سراح الرهائن، حتى لو استلزم الأمر قتل مواطنيه المحتجزين كرهائن أثناء الهجوم المخطط له لتحريرهم. الأمر المؤكد هو أن هذه المغامرة الدموية التي قامت بها حماس قد أضفت الشرعية على تدفق غير مسبوق للعنف من قبل إسرائيل التي أدانتها محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
لقد تم في الواقع انتهاك قواعد الحرب التقليدية على نطاق واسع، أولاً من خلال ممارسة الحصار المحرم دولياً ومنع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء عن السكان، ثم من خلال الاستخدام المشترك للأسلحة المحظورة بموجب الاتفاقيات الدولية (الأسلحة الكيميائية مثل الفوسفور الأبيض) والقناصة والطائرات من دون طيار القاتلة التي تستهدف المدنيين العزل، فضلاً عن القصف البساطي للمناطق السكنية ومخيمات اللاجئين ومركبات ومباني المنظمات الإنسانية غير الحكومية وأماكن العبادة والمدارس والمستشفيات.
منذ الأسابيع الأولى للعملية، قُتل العشرات من العاملين في المجال الإنساني والأطباء العاملين والصحفيين أو تم اعتقالهم ونقلهم إلى مراكز الاعتقال دون محاكمة. ولم تسعَ الصور التي أنتجتها أجهزة الإعلام التابعة للنظام والجيش الإسرائيلي إلى إخفاء استخدام المعاملة اللاإنسانية والمهينة بحق الأسرى، الذين لا يتمتعون بمكانة أسرى حرب، ولا بمكانة الرهائن، سواء كانت هذه المكانة تعني اعتماد إجراءات ومفاوضات محددة لاستمرار احتجازهم أو إطلاق سراحهم في إطار مفاوضات بين أطراف الصراع. جنود الجيش الإسرائيلي أنفسهم لم يتوقفوا عن التواصل منذ اليوم الأول للعملية على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص على موقعي ”تيكتوك“ و”تيليغرام“، متفاخرين بشكل شبه يومي بارتكابهم جرائم وبثهم مقاطع فيديو تدينهم وتدل على تجريدهم من إنسانيتهم. المزيد عن هذا الجانب لاحقًا.
فيما يلي، مونتاج لمقاطع فيديو مأخوذة من وسائل التواصل الاجتماعي، لإظهار جزء صغير مما ارتكبه الجيش الإسرائيلي ولا يزال يرتكبه في غزة منذ أكتوبر ٢٠٢٣.
تحذير: بعض الصور يصعب مشاهدتها.
وسائل التواصل الاجتماعي تقول الحقيقة
تم توثيق جرائم الحرب بشكل كامل من قبل المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية. وبالإضافة إلى المؤسسات والهياكل التقليدية، قامت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا بتغطية هذه الجرائم على نطاق واسع، ويجب اعتبارها مصادر مشروعة للمعلومات بقدر ما تنقل من شهادات أولية من منطقة متضررة بشكل مباشر. وعلى هذا النحو، فإن هذه المصادر لها قيمة إثباتية تضاهي قيمة شهادات الضحايا والأطراف المدنية، وكذلك اعترافات الجناة في المحاكمات الجنائية، بغض النظر عن الاستخدام اللاحق للصور التي يتم نشرها على الملأ. والأكثر من ذلك، يمكن بسهولة التحقق من حسابات المستخدمين، وكذلك مواقع وتواريخ تسجيلات الفيديو، والتحقق من صحتها من قبل الخبراء والمحققين، مما يجعل من المستحيل اعتبارها مفبركة أو متلاعب بها: فالغالبية العظمى من آلاف الميغابايت من البيانات من غزة لا يمكن أن تكون نتيجة أخبار مزيفة وصور تم إنشاؤها بواسطة الحاسوب، كما يدعي البعض. لقد تطورت المجتمعات، ومراعاة الحداثة تعني الاعتراف بشرعية طرائق المعلومات والاتصالات الجديدة، ليس أقلها أنها تضمن تنوعًا أكبر في المصادر من وسائل الإعلام السائدة والوطنية.
ومع ذلك، نحن نعلم كم هو محرج للحكومات أن تضطر للتعامل مع وسائل الإعلام التي تتفادى سيطرتها، ومن هنا تأتي جهودها المستمرة لفرض رقابة كاملة على المحتوى النقدي الذي يتم مشاركته على شبكات التواصل الاجتماعي.
الدفاع عن النفس أم الانتقام؟
بعد أن استبعدنا فرضية النفي أو الفرضية التنقيحية، التي تنطوي على إنكار حقيقة الجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فإن ما يتبقى لنا أن نبحثه هو الدوافع الكامنة وراء هذه الجرائم وطبيعتها المتعمدة.
إن مفهوم القصدية أمر بالغ الأهمية لعدة أسباب. أولاً، لأنه يجعل من الممكن التمييز بين الدفاع عن النفس والانتقام أو الثأر، وثانياً، لأنه يجعل من الممكن تحديد الغرض الحقيقي من فعل العنف أو الجريمة. فالدفاع عن النفس، وهو قاعدة أساسية على مفترق الطرق بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي، يحدد الظروف التي يمكن فيها قتل شخص أو إلحاق الأذى به دون خوف من العقاب. ولتحديد الظروف التي يمكن فيها التذرع بالدفاع عن النفس بدقة، حدد القانون عددًا من المعايير التي يجب أن تتوافر لكي يعتبر الدفاع عن النفس مشروعًا: يجب أن يكون التهديد حقيقيًا (ليس متخيلًا أو مفترضًا) ووشيكًا (ليس قبل لحظة الرد)، ويجب أن يكون الرد فوريًا (محصورًا في مصدر التهديد ودون تأخير، وإلا سيكون انتقامًا)، وضروريًا (يجب ألا تكون هناك طريقة أخرى لتجنب التهديد) ومتناسبًا مع التهديد (بما يكفي لإبطال مفعول التهديد).
في بداياتها، كان يُعتقد أن هذه القاعدة تهدف إلى تمكين الأفراد الذين يفتقرون إلى السلطة القانونية من حماية أنفسهم في حال تعرضهم للاعتداء، ولكن أيضًا لحمايتهم من أي عقوبات أو إجراءات قانونية إذا ما استخدموا العنف للدفاع عن أنفسهم من عنف الآخرين. ولكن على مدى العقد الماضي، قامت السلطات القانونية (التي نعتقد أنها شرعية)، أي الدولة وممثليها، بتغيير تدريجي للخطاب والقوانين تدريجياً إلى قواعد قانونية خاصة بالمخاطبين بالقانون حصراً.
وإذا ما عدنا إلى السياق النظري العام الذي حدثت فيه هذه التطورات، لا يسعنا إلا أن نشير إلى أوجه التشابه مع الحجة التي حشدتها دولة إسرائيل وحلفاؤها لإضفاء الشرعية على المذبحة التي لا هوادة فيها ضد عرب غزة، استنادًا حصريًا إلى ”حقها في الدفاع عن نفسها“ في أعقاب هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣. كانت الأسئلة الواقعية للغاية التي كان ينبغي على العالم أن يطرحها هي هل كان التهديد الذي يشكله سكان غزة على المجتمع الإسرائيلي تهديدًا حقيقيًا؟ هل كان الرد – الإبادة الكاملة لقطاع يقطنه أكثر من مليوني شخص – ضروريًا ومتناسبًا؟ إذا كان معيارا الوشيك والفورية مستوفيين بالفعل ظاهريًا، كان من الضروري طرح سؤال أخير لإبطال حجة إسرائيل بشأن شرعية ردها: هل كان هجوم حماس جزءًا من سياق متواصل من القمع والعنف الاستعماري من جانب إسرائيل، أم أنه كان عملًا عدوانيًا لا مبرر له ردًا على غياب أي تهديد لشعب فلسطين؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير بأحداث تاريخية مثل انتفاضة الغيتو في وارسو عام ١٩٤٣ (ضد الحصار النازي) أو أعمال الشغب في بلدة سويتو عام ١٩٧٦ (ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا)، واستخلاص أوجه الشبه الضرورية: فدولة إسرائيل ليست مستعمَرة ولا مضطهَدة، بل هي المستعمِر والظالم. وعلى هذا النحو، لا يمكنها تحت أي ظرف من الظروف أن تدعي الدفاع عن النفس، لأننا لو اتبعنا هذا المنطق، لكان لفرنسا الشرعية في محو العراق وسوريا بأكملها من الخريطة بعد هجمات تنظيم الدولة الإسلامية على باريس في عام ٢٠١٥. وردًا على ذلك، فإن أي دولة عربية سيكون لها ما يبرر قصف المدن الغربية كلما تدخلت جيوش الناتو بالقوة في شؤونها الوطنية. من الواضح أن المنطق الذي يشرعن عمليات القتل الجماعي للعرب لا يستقيم. ومع ذلك، فإن هذا هو بالضبط المنطق الذي قاد الولايات المتحدة إلى تدمير العراق بشكل دائم بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠١١، بذريعة التهديد النووي الذي يعرف أفضل المحللين أنه غير قابل للتصديق تمامًا. لدى الغرب دائمًا دوافع واهية لتدمير المجتمعات العربية.
وبعيدًا عن عنف ورعب هجوم حماس، لا يمكن لأحد أن ينكر بشكل لائق غياب أي ضرورة قاهرة تبرر إبادة قطاع غزة منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول فصاعدًا، ولا عدم التناسب التام للوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الغاية، نظرًا لأن المهاجمين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد تم إهلاك أو أسر معظمهم خلال هجومهم (١٨٠٩ مقاتل وفقًا لإسرائيل) وأن الصواريخ الخمسة آلاف التي أطلقتها حماس تم اعتراضها إلى حد كبير، ولم يقتل منها أكثر من خمسة أشخاص في المجموع: وبالتالي تم تحييد التهديد الرئيسي والوشيك بحلول مساء يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ولم ينطبق الدفاع الصارم عن النفس إلا على الرد الإسرائيلي في اليوم نفسه. أما الانتقام، من ناحية أخرى، فيتميز بسبق الإصرار و/أو الانحراف الأخلاقي، أي التوقع أو التحضير (بما في ذلك التحضير الذهني) للجريمة، مع نية عدم التصرف بشكل أخلاقي. أخيرًا، في حين أن الدافع أو الغرض الحقيقي للعمل المسلح غالبًا ما يكون غير رسمي، بل وسري، وبالتالي يكون مفتوحًا للتفسير، إلا أنه في القانون هناك ما يعرف بـ ”مجموعة من الافتراضات“، والتي تجعل من الممكن إثبات وجود دوافع جنائية، لا سيما العنصرية منها. في سياق فلسطين، تشمل أسس الافتراض هذه الأفعال والتصريحات العلنية التي تُظهر الرغبة في إضفاء الطابع الأصولي على سكان غزة بأكملهم وإلحاقهم ككل بمجموعة معينة، وهي في هذه الحالة حماس. ينطوي هذا التأصيل على استخدام مصطلحات اختزالية وتبسيطية تمحو التعقيد والتنوع الذي يميز أي سكان مدنيين، خاصةً إذا كان يضم عدة آلاف من السكان. في حالة غزة، نحن نتحدث عن ٢.٢٣ مليون نسمة، بما في ذلك العديد من الأقليات العرقية والدينية والسياسية، بالإضافة إلى الآلاف من مزدوجي الجنسية و١.٠٤٦مليون طفل دون سن ١٨ عامًا (٤٨٪).
حماس في السلطة في غزة، ولكن سكان غزة ليسوا حماس
إذا عدنا إلى نشأة حركة حماس، نلاحظ أنها ولدت متأخرة في عام ١٩٨٧، أي بعد حوالي ٤٠ عامًا من قيام إسرائيل. فقبلها كانت المقاومة الفلسطينية تتجسد في حركات سياسية قومية واشتراكية وعلمانية منها حركة فتح التي تأسست عام ١٩٥٩. وقد تخلت هذه الحركات على الصعيد العالمي عن الكفاح المسلح في نهاية الانتفاضة الأولى ( ١٩٨٧ – ١٩٩٣) لتستثمر في مفاوضات السلام، بينما ظلت متضامنةً مع المقاومة الشعبية لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي. كان استمرار القمع العنيف للفلسطينيين رغم مفاوضات السلام السبب الرئيسي لظهور القوى الإسلامية في فلسطين، والذي تزامن مع تكريس الصراع الإقليمي في المنطقة خلال الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥-١٩٩٠). وقد لعبت إسرائيل دورًا فاعلًا في هذا التطييف لا سيما من خلال دعم الميليشيات المسيحية اللبنانية، بينما شجعت ظهور حماس لإضعاف المنظمات الفلسطينية الاشتراكية وغير الطائفية (منظمة التحرير الفلسطينية: فتح، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، جبهة التحرير الفلسطينية…).
وقد أدى سجن وموت القادة السياسيين المشاركين في التفاوض على اتفاقيات السلام[4]، ثم الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠-٢٠٠٤) والحرب اللبنانية في عام ٢٠٠٦، إلى تسريع صعود حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان. وأخيرًا، في عام ٢٠٠٦، فازت حماس في الانتخابات في غزة بنسبة ٤٤,٤٥٪ من الأصوات، بينما بقيت القوى السياسية العلمانية القومية والاشتراكية في الأغلبية ولكن منقسمة (فتح + الجبهة الشعبية + البديل + فلسطين المستقلة = ٥١,٣٢٪ من الأصوات). وإذا ما نظرنا إلى هذه الانتخابات بالتفصيل، وأخذنا بعين الاعتبار نسبة الامتناع عن التصويت التي بلغت نسبتها ٢٢,٨٢٪ ، فإن نسبة ٣٢,٦١٪ فقط من الناخبين المسجلين اختاروا حماس. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن ٣٤,١٧٪ من السكان الفلسطينيين لم يكونوا مسجلين للتصويت أو لم يبلغوا سن التصويت، فإن ١١,١٤٪ فقط من أصل ٣,٩٥ مليون فلسطيني في ذلك الوقت اختاروا حماس فعليًا.
وعلى مدار العقد التالي، رسخت حماس نفسها كقوة محافظة لا تتسامح مع النقد وتقمع كل أشكال المعارضة، مما جعلها لا تحظى بشعبية نسبية، كما يتضح من استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في حزيران/يونيو عام ٢٠٢٣: يرى ٧٣٪ من سكان قطاع غزة أن هناك فسادًا داخل حماس، ويرى ٥٩% من المستطلعين أنه لا يمكن انتقاد حماس دون خوف، و٥٧٪ من المستطلعين سيصوتون لمروان البرغوثي (فتح) لو كان حرًا بدلًا من مرشح حماس، بينما يرى ٤٣% من المستطلعين أن لا حماس ولا فتح تستحقان تمثيل الفلسطينيين. وعلاوة على ذلك، يفضل ٤٧٪ من سكان غزة المقاومة السلمية على الكفاح المسلح[5]. وأخيراً، وبما أن الانتخابات الأخيرة أجريت قبل ١٨ عاماً، فإن حوالي ٧٨٪ من السكان الحاليين لم يكونوا قد ولدوا (٤٨٪) أو في سن التصويت في عام ٢٠٠٦ (٣٠٪)، ناهيك عن حقيقة أن جزءاً من السكان، وبالتالي من ناخبي حماس، قد ماتوا في السنوات الثماني عشرة الأخيرة. ونتيجةً لذلك، يمكننا القول إن سكان غزة في عام ٢٠٢٣ لا علاقة لهم بانتخاب حماس في عام ٢٠٠٦، ولا علاقة لهم بحقيقة أنها تمسك بزمام السلطة بالقوة منذ ذلك الحين.
حماس: حركة رجعية
ما هو أكثر من ذلك – وغالبًا ما يتم تجاهل هذا الأمر عند الحديث عن المقاومة الفلسطينية – أن عملية إضفاء الطابع الأساسي تؤثر أيضًا على مقاتلي حماس أنفسهم. إذ يتم إنكار انتماء حماس التاريخي إلى جماعة الإخوان المسلمين (وبالتالي إلى الإسلام السياسي)، ويتم مقارنتها بالتيارات الجهادية، أو حتى مساواتها بشكل منتظم مع تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية. وقد كتب العديد من المثقفين والمتخصصين، الذين لا يمكن اتهام معظمهم بالتعاطف مع الإسلاميين، العديد من الأطروحات الجامعية والكتب حول تاريخ الإسلام، وكذلك حول التيارات الدينية والسياسية داخل الإسلام. كل هذه الدراسات تجعل من الممكن فهم السبب في أن الإخوان المسلمين ليسوا جهاديين، ولماذا يؤدي إضفاء الطابع المؤسسي على الإسلام السياسي بشكل شبه منهجي إلى اعتدال هذه التيارات في ممارستها للسلطة[6]. كما أن الاستشراق الذي يطبع تحليل التيارات الإسلامية والإسلام السياسي اليوم يصطدم بالواقع الذي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية في مواجهة هذه الحركات.
ما يقوله هذا الواقع هو أن جماعة الإخوان المسلمين هي تهديد معتدل، سواء للسكان الخاضعين لسيطرتها أو لجيرانها، أو بعبارة أخرى لا يقل استبداد حماس عن أي حزب أو حركة سياسية استبدادية في السلطة. والواقع أن استبداد حماس ضد السكان المدنيين لا ينبع تحديدًا من تطرفها الديني، بل من رغبتها في الحفاظ على هيمنتها على المجتمع الفلسطيني. فحماس، شأنها شأن أي تيار يميني متطرف في العالم، هي حزب سلطوي يحمل قيمًا محافظة ورجعية في كثير من النواحي، لكنها ليست حركة سلفية أو جهادية: فحماس، على الرغم من عنفها، لا تقطع رؤوس أو تحرق أحدًا حيًا. وأخيرًا، يجب أيضًا تقييم الدوافع وراء التزام مقاتلي حماس في ضوء حالة الخنق والقمع المستمر للسكان الفلسطينيين منذ ٧٥ عامًا، وكذلك الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ ١٦ عامًا، وما يترتب عليه من نسبة بطالة تتجاوز ٤٥٪ وانعدام الآفاق أمام الشباب. لا يمارس مقاتلو حماس الجهاد، بل ينضمون إلى الحركة المسلحة الوحيدة المناهضة للاستعمار التي تدعي مناهضة التطبيع وبناء توازن قوى مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. إن عدد المقاتلين التابعين لحماس غير معروف، والرقم الوحيد الذي قدمته إسرائيل هو ثلاثون ألف مقاتل. وبالنظر إلى واقع المنطقة، ولا سيما أعداد الميليشيات الإسلامية الأخرى (ولا سيما حزب الله)، فمن غير المرجح أن يتجاوز العدد الحقيقي لمقاتلي حماس العشرين ألف مقاتل، وهو ما لا يشير إلى دعم كبير للحركة في أوساط سكان غزة.
ستار مكافحة الإرهاب
من السهل أن نرى لماذا تجد إسرائيل في جهودها الرامية إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتشويه سمعة المقاومة الفلسطينية أنه من المريح لها استخدام خطاب مكافحة الإرهاب: مثل كل الأنظمة الاستبدادية والاستعمارية، تشير إسرائيل إلى من يقاومون قمعها على أنهم إرهابيون. لا تكشف هذه الدلالة المقبولة عالميًا حديثًا عن جهل وضيق أفق من يستخدمونها فحسب، بل تكشف أيضًا عن نيتهم في اختزال أي مقاومة مسلحة أو معارضة راديكالية أو ثورية إلى مجرد تهديد. وتحت ستار حماية السكان المدنيين من أي تهديد لأمنهم -وهو ليس دافعها الحقيقي- فإن مكافحة الإرهاب هي أولاً وقبل كل شيء أداة لمكافحة التمرد لحماية أمن الدولة ومصالحها. ومن ثم، فإن مجرد تصنيف جماعة ما كإرهابية يكفي لحرمان أفرادها على الفور من كل حق وحماية تكفلها عادًة قوانين الحرب والقوانين الإنسانية والاتفاقيات الدولية لاحترام حقوق الإنسان وكرامته.
وعلاوة على ذلك، فإن مصطلح ”إرهابي“ ليس له تعريف قانوني دقيق، مما يجعله مفهوماً غامضاً ومفتوحاً كلياً للتفسير. وبالتالي، وبالإضافة إلى مصطلح ”بربري“، يُستخدم هذا المصطلح لحرمان الأفراد من صفتهم كبشر، مما يجعل الإذلال العلني والإعدام بإجراءات موجزة والتعذيب والتشويه والإيذاء الجسدي أمرًا مشروعًا ومقبولًا. لقد ساهمت فرنسا في الجزائر، والولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام وأفغانستان والعراق، وروسيا في الشيشان وحتى الصين في شينجيانغ في تطبيع الممارسات القاسية التي تعتبر غير قانونية بموجب اتفاقيات الأمم المتحدة. وعندما تتخطى إسرائيل الخط الأحمر إلى أبعد من ذلك، فإنها تفعل ذلك من خلال توريط جميع السكان المدنيين في غزة بتهمة التواطؤ مع حماس، بما في ذلك الأطفال دون السن القانونية الذين يشكلون نصف سكان غزة تقريبًا كما ذكرنا سابقًا. من خلال تشجيع نشر الأكاذيب الصارخة حول الأعمال الوحشية التي ارتكبتها حماس خلال الهجوم الدموي في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وخاصة ما زعم عن قطع رؤوس نحو أربعين طفلاً وعمليات الاغتصاب المتسلسلة[7]، فإن إسرائيل تعلم جيدًا أن الهمجية والإرهاب سيكونان السجل المعجمي المناسب لإضفاء الشرعية على جميع جرائم الحرب التي سترتكبها انتقامًا من سكان غزة. وهذا جزء من استراتيجية الدعاية الإسرائيلية ”الحسبرة“، التي تندرج في إطار اللوبي الصهيوني الهادف إلى مواجهة الخطاب السلبي الذي ينزع الشرعية عن إسرائيل. وبالتالي، فإن شيطنة الفلسطينيين من أجل إقناع العالم بأن إبادتهم مبررة تقترن بالتحريف التاريخي فيما يتعلق بالطريقة التي تم بها بناء دولة إسرائيل وفرضها بالعنف، وإنكار الجرائم التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية قبل عام ١٩٤٨، والجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين. على سبيل المثال، من المفترض أن ننسى أن ميليشيا الإرغون الصهيونية نفذت هجمات بالقنابل ضد المدنيين وكذلك ضد الشرطة البريطانية في السنوات التي سبقت إنشاء إسرائيل[8]، قبل أن يصبح زعيمها مناحيم بيغن رئيسًا للوزراء ثم وزيرًا للدفاع الإسرائيلي بعد ثلاثين عامًا، وقد تمت تبرئته من جرائمه بشكل ملائم. وبالتالي، فإن دولة إسرائيل هي أفضل عرض للإرهاب المُنتصر الذي لم يُعاقب عليه. وبالتالي، فإن السؤال هو: من يقرر من هو الإرهابي، وإلى متى؟
ومع ذلك، فإن مفهوم الإرهاب هو أداة مفيدة للغاية لتصنيف المقاومة الشعبية، مهما كان أساسها الأيديولوجي. وبعيدًا عن ذلك، فإن المجتمعات العربية ككل هي المستهدفة. لقد أصبح العرب العدو الفعلي رقم واحد، وكبش الفداء الذي يتحمل مسؤولية أي مقاومة شعبية لإرادة الهيمنة والتحضر الغربية. ويكفي هجوم مسلح واحد من قبل فرد أو مجموعة هامشية من الجاليات العربية الإسلامية لإضفاء الشرعية على القضاء على عشرات الآلاف من أرواح العرب. وهكذا أصبح العقاب الجماعي أمرًا طبيعيًا. ويمكننا التحدث عن الموت البطيء للفلسطينيين لأنه بات في نشرات الأخبار، ولكن يجب ألا ننسى أن التدخلات الغربية في الشرق منذ أواخر العصور الوسطى كانت جميعها موجهة بالرغبة الصليبية نفسها في استعادة ”الأرض المقدسة“ من البرابرة الزنادقة أو الملحدين الذين يسكنونها، أي العرب[9]. ما تغير في النصف الثاني من القرن العشرين هو الخطاب، ولكن ليس الدوافع. فمنذ أن نصّبت الدول الغربية نفسها طليعة مستنيرة وأصدرت قوانينها الحربية وجميع أنواع المواثيق الإنسانية، قبل أن تمنح الاستقلال لعدد من الدول بعد عقود من التفوق العنصري والنهب الاستعماري والعبودية، اضطرت بالفعل إلى تجديد خطابها من أجل الاستمرار في تبرير الحروب الإمبريالية التي تشنها باسم السوق العالمية، خاصة حيث يكثر النفط والغاز. وأي موضوع أفضل من الموضوع المألوف للبربري القادم من الشرق؟ ولكن ليس أي بربري عادي، يخوض معركة تحترم قوانين الحرب، وقضيته مشروعة في نظر قطاع من الشعوب واليسار الغربي. لا، بل هو بالأحرى البربري المتوحش والهمجي الذي يرعب كل من يتخيله قريبًا منه. سيطلق الغرب على هذا البربري اسم ”إرهابي“ من أجل التبسيط. وإذا لم يكن موجوداً، فسيكون علينا أن نساعد على خلقه، أو نساعده على خلق نفسه، المهم أن يخيف أي إنسان عادي بما يكفي لكي يتقبل موته دون مزيد من اللغط. هذا الوحش هو الإرهابي المسلم، الذي يشبه في المخيلة الغربية ذلك العربي الخسيس والوحشي الذي جسده محمد حسن الملقب بفرانك لاكتين في الأفلام الأمريكية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وكذلك ٧٨٪ من الشخصيات من الشرق الأدنى والأوسط التي تظهر في المسلسلات التلفزيونية الأمريكية[10].
لذلك، بمجرد أن يشن عربي أو مسلم هجومًا مباغتًا أو يفجر قنبلة هنا أو هناك، يجب أن يُفهم بوضوح أن هذا عمل بغيض على وجه التحديد، ولا علاقة له بالطبع بالهجمات التي قامت بها المقاومة ضد النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وإبادة ناجازاكي وهيروشيما عام ١٩٤٥, أو عمليات مكافحة التمرد التي طبقها الجيش والشرطة الفرنسيين ضد المدنيين الجزائريين بين عامي ١٩٤٥ و١٩٦٢، أو قصف شرطة فيلادلفيا لمجموعة السود الأمريكيين ”موف“ في وسط المدينة عام ١٩٨٥، أو الاغتيالات المستهدفة التي تنفذها جيوش الديمقراطيات الكبرى بانتظام باستخدام طائرات بدون طيار أو صواريخ يتم التحكم فيها عن بعد[11]. لكن ما يميزها هو تحديدًا المنظور العنصري الذي يتم من خلاله تحديد مرتكبي أعمال العنف هذه. فالبعض، الذين يمكن وصفهم بالأشرار، هم بطبيعتهم معتدون، بينما الآخرون، الذين من الواضح أنهم أخيار يتصرفون بالضرورة دفاعًا عن النفس. فالأولون يقتلون عشوائيًا لإثارة الرعب والفوضى بينما يقوم الآخرون بـ”تحييد الأهداف“ لاستعادة السلام والأمن. وبعيدًا عن الطبيعة الساخرة لهذه الجمل الأخيرة، يجب أن ندرك مدى قرب هذه الصور الكاريكاتورية من الخطاب الذي تتداوله النخب السياسية والإعلامية في العالم بشكل شائع، وتتبناه الأغلبية دون أي شك نقدي حقيقي. لا يوجد إرهابيون جيدون، بل يوجد فقط عرب أشرار ومسلمون أشرار. ولكن عندما يذبح رجل أبيض عشرات الأطفال في مدرسة أمريكية أو يطعن عربًا في بلدة فرنسية[12]، لا أحد يستخدم مصطلح إرهابي. إنها “التحكم في أصل تسمية المنشأ”.
إسرائيل، تجسيد لتفوق العرق الأبيض والعنصرية ضد العرب
من الثابت أن إسرائيل ترتكب جرائم في غزة. الشيء الوحيد الذي لا يلقى الإجماع هو تبرير/إضفاء الشرعية على تلك الجرائم. لذلك نحن بحاجة إلى النظر إلى ما يُعرف في القانون بـ ”الدافع للجريمة“، وهو ما يعيدنا إلى ”مجموعة الافتراضات“ المذكورة أعلاه. وهذا يتطلب تحليلاً للعلاقة العضوية بين إسرائيل وأوروبا وأمريكا الشمالية. لن نلتف هنا: نريد أن نتطرق إلى التقارب الأيديولوجي بين الصهيونية والقومية الألمانية، فكلاهما يجمع بين المشروع الاستعماري والتفوق العرقي/القومي. فبالإضافة إلى اعتبار العرق أو الأمة المدافعة متفوقة أو مختارة بإرادة إلهية ( المسيحانية/الألفية)، تتفق كلتا القوميتين على إمكانية – وبالتالي مقبولة أخلاقياً – إخضاع أو إبادة الأمم أو الأعراق الأخرى التي تعتبر متخلفة أو أدنى. وتقتصر النسخ الأكثر اعتدالًا من هذه القوميات[13] على استحضار الحاجة إلى تحقيق التقدم والتطور للشعوب المتجمدة في الماضي، وعادةً ما يكون ذلك تحت ستار الحداثة. وهذا هو الحال مع الصهيونية.
بدأت هذه الحركة الإيديولوجية على يد الصحفي والكاتب النمساوي المجري تيودور هرتزل (١٨٦٠-۱٩٠٤) في عام ١٨٩٧. ومنذ ذلك الحين، عُقدت مؤتمرات صهيونية دولية عديدة، وأنشئت هياكل لتشجيع الشتات على أداء ” ألياه“ (الصعود)، أي الاستيطان في فلسطين التي كانت تحت الحكم العثماني (التركي السلجوقي) منذ عام 1517، ثم تحت الاحتلال البريطاني منذ عام ١٩٢٠. تأثرت آراء هرتزل الشخصية تأثراً عميقاً بنظريات التفوق الألماني، ورأى في انتقاله إلى فلسطين مشروعاً صحياً يهدف إلى تمدين الشعوب الشرقية، بما في ذلك اليهود من السكان الأصليين. ذكر منتقدوه المعادون للصهيونية، مثل أبراهام شالوم يهودا ( ١٨٧٧ – ١٩٥١)، وهو يهودي من فلسطين، وروفين سنير (مواليد ١٩٥٣)، وهو يهودي من العراق، بعض المقاطع البليغة في مذكرات هرتزل التي نُشرت في عام ١٩٦٠: ”لقد شاءت إرادة الله أن نعود إلى أرض آبائنا، ونحن بذلك نمثل الحضارة الغربية، ونجلب نظافة الغرب ونظامه وعاداته النقية إلى هذه القطعة الموبوءة والفاسدة من الشرق […] ومع اليهود، عنصر من الثقافة الألمانية التي ستقترب من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط […]. ولا شك أن عودة اليهود شبه الآسيويين تحت حكم أناس أصيلين حديثين يجب أن تعني بلا شك عودة الصحة إلى هذه البقعة المهملة من الشرق“. في هذا الصدد، يمكننا أن نرسم تشابهًا واضحًا مع أفكار وكتابات معاصري هرتزل، الجغرافي فريدريك راتزل ( ١٨٤٤ – ١٩٠٤) والفيلسوف كارل هاوشوفر (١٨٦٩ – ١٩٤٦)، وخاصة مع نظريتهما عن ”الحيز الحي“ (Lebensraum). وقد ألهمت هذه النظرية إلى حد كبير نظريات التفوق التي طورها هتلر في كتاب ”كفاحي“، على الرغم من أن راتزل تخيل استيطانًا استعماريًا للشعب الألماني في قلب أفريقيا (ميتلافريكا)، وليس في أوروبا الشرقية كما دعا إليه منظرو النازية. على أي حال، وضع كل من راتزل وهرتزل طموحاتهما الاستعمارية والحضارية خارج البحر الأبيض المتوسط، مما يجعلهما مشابهين للعديد من الإمبرياليين الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن ما جلبته نهاية القرن العشرين هو التخلي عن النهج العنصري العلني للإمبريالية الغربية، ومعها بعض الترجيح أو التهوين (وإن كان نسبيًا) للخطابات الجوهرية المتعلقة بسكان الجنوب منذ أواخر السبعينيات فصاعدًا. إلا أن منعطف التسعينيات وظهور الإرهاب العربي[14]والإسلامي خلال العقدين الأخيرين قد جدد الخطاب العنصري الغربي الذي فرض فكرة أن الدفاع عن الديمقراطية الغربية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قمع القومية العربية التي يتم دائمًا مساواتها بشكل ملائم مع الأصولية الإسلامية، رغم أن الاثنين متعارضان في كثير من الأحيان. لقد وجدت فكرة القلعة المحاصرة والحصن المنيع ضد البربرية القادمة من الشرق، والتي تعود أصولها إلى فترة ما قبل القرون الوسطى، فرصة جديدة للحياة: لم تعد الإمبراطورية الرومانية هي التي في خطر، بل الديمقراطية الغربية بمعناها الأوسع، وهو ما يعني أن الرهان يتجاوز حماية المجتمعات الأوروبية والأمريكية الشمالية وحدها ليصبح الحفاظ على ”العالم المتحضر“ بأكمله، والذي لا تزال حدوده مع ذلك غير واضحة المعالم.
الخير ضد الشر، أو الحضارة ضد الصحراء
كانت حنة أرندت ( ١٩٠٦ – ١٩٧٥) فيلسوفة ألمانية وعالمة سياسية وصحفية مشهورة، أجرت تحليلاً متعمقًا للقوى المحركة للحداثة والشمولية، مستندة بشكل خاص على تجربة الرعب النازي. وبينما يعرف الكثيرون أو يدّعون معرفتهم بعملها حول تفاهة الشر، أي أن أسوأ الفظائع غالبًا ما يسمح بها أو يرتكبها أشخاص عاديون أو حتى تافهون، فإن القليلين هم من يولون الأهمية الواجبة لتحليلها لتواطؤ الضحايا في اضطهادهم، من خلال الجبن أو السذاجة أو موقف الانتظار والترقب. على وجه الخصوص، كانت أرندت قد كشفت عن تورط المجالس اليهودية (Judensräte بالألمانية) في ترحيل اليهود إلى أوشفيتز، مما أثار جدلاً ساخنًا كلفها بعض صداقاتها[15]. ودون الخوض في تفاصيل هذا الجدل، الذي يشهد على عجز معظم الناس عن تنحية غرورهم جانبًا والنجاة من انكسارهم[16] أمام الكشف عن حقيقة مؤلمة لسماعها أو حقائق يصعب الاعتراف بها، فإن كتاباتها تحكي عن استحالة تصور المجتمعات الغربية لفكرة أن البربرية مصدرها في داخلها إلى حد كبير وقبولها. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن زحف الصحراء[17] الذي تحدثت عنه حنة أرندت أيضًا، والذي يصف صعود الشمولية من داخل المجتمعات الغربية، يمكن أن يكون نتيجة لسكان هم في حد ذاتهم ضحية لهذه الشمولية. في هذا الصدد، من المثير للانتباه إلى حد كبير أن جزءًا كبيرًا من المجتمع اليهودي، بعد أن تعرض للاضطهاد لآلاف السنين في الغرب، أصبح مقتنعًا بأنه، من خلال الانتقال إلى خارج حدوده، لن يجد السلام والأمن هناك فحسب، بل سيشكل أيضًا بؤرة ديمقراطية في مواجهة البربرية، على الحدود الفاصلة بين الحضارة والصحراء. ولن تكون بذلك سوى إعادة تحضّر الشرق مع إعادة تحضّر الغرب. على أي حال، هكذا تتصور الصهيونية وجودها في فلسطين، وهكذا تبرر الولايات المتحدة دعمها غير المشروط للاستعمار الإسرائيلي: ستكون إسرائيل حصن الغرب الأخلاقي (غير القابل للعيش بالنسبة لليهود) ضد العنف الجامح لـ”موردور“ العربية[18] – التي بالمناسبة لم تشارك في الهولوكوست. من المريح أن نتخيل عدوًا خارجيًا يمكننا أن نفصل أنفسنا عنه بجدار بسيط، في حين أن الواقع والتجربة التاريخية تثبت أن العدو في أغلب الأحيان يكون في داخلنا أو بيننا. في انعكاس النموذج الذي يمثله الاستعمار الصهيوني لفلسطين، تتجسد الصحراء المفاهيمية التي تحدثت عنها أرندت في هؤلاء المستوطنين القادمين من الغرب، بينما الصحراء الطبيعية والمأهولة التي تواجههم في موقع الخاضع لاستبدادهم. المفارقة هي أن الصهاينة الذين جاءوا بحثًا عن مراعي أكثر خضرة في مكان آخر، يجدون أنفسهم يحرقون أشجار الزيتون التي تعود إلى قرون من الزمن ليزرعوا الصنوبريات في كل مكان، مساهمين بذلك في إفقار نظام بيئي كامل هم غرباء عنه تمامًا[19].
لا يخفي المستوطنون المتعصبون الذين يوسعون وجودهم في قلب الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية حقيقة أنهم يقيمون المزيد والمزيد من البؤر الاستيطانية – غير القانونية – هناك، استجابةً لضرورة تفوقية ترى العرب كسكان يجب طردهم أو القضاء عليهم باسم معركة ميتافيزيقية بين الخير والشر. يأخذ التعبير عن هذه الثنائية شكل خطاب عنصري عنيف على نطاق لا يختلف عن ذلك الذي استخدمه المنظرون النازيون ضد اليهود. في عام ٢٠٠٩، نشر يتسحاق شابيرا ويوسف إليتسور، وهما حاخامان من مستوطنة يتسهار الواقعة على بعد خمسة كيلومترات جنوب نابلس، كتابًا بعنوان ”تورات هاملخ“ دافعا فيه عن فكرة أن اليهود مخولون بموجب فتاوى دينية بقتل غير اليهود، بمن فيهم الأطفال، في ظروف معينة. وقد أيد كتابات الإبادة الجماعية هذه دوف ليئور، حاخام الخليل وكريات أربع، والزعيم الكاريزمي لليمين الصهيوني المتطرف الإسرائيلي، الذي برر مرارًا وتكرارًا قتل غير اليهود، ملهمًا بخطاباته المليئة بالكراهية قطاعًا كاملًا من اليمين الإسرائيلي. وبنفس الروح، برر الحاخام إيال كريم، حاخام القوات المسلحة الإسرائيلية حاليًا، في عام ٢٠١٢، استخدام الجنود للاغتصاب في زمن الحرب، معتبرًا الأمر بهذه العبارات ”بما أن أولويتنا هي نجاح المجتمع في الحرب، فقد أجازت التوراة [للجنود] إشباع رغباتهم الشريرة بالشروط التي نصت عليها باسم نجاح المجتمع“. إن وعظ هؤلاء الحاخامات ”المعادي للأغيار“ والمعادي للعرب يغذي العنصرية التي تبرر ارتكاب الجرائم باسم بقاء الشعب اليهودي، وله تأثير هائل على مئات الآلاف من الإسرائيليين. ومنذ ذلك الحين، غرس الأصوليون الدينيون الذين جعلوا من استعمار فلسطين قضية مسيانية في نفوس الإسرائيليين أفكارهم الفوقية والفاشية تدريجيًا في أعلى مستويات الدولة الإسرائيلية. تتجلى رؤيتهم العنصرية والألفية تمامًا في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي ألقاه في ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣ لتبرير هجومه العسكري الأخير ضد الفلسطينيين في غزة: ”نحن أبناء النور، وهم أبناء الظلمة، والنور سينتصر على الظلمة […] تذكروا ما فعلته أماليك بكم“[20]. عندما يستدعي إبادة ”بذور أماليك“، فالإشارة ليست دينية بل عرقية، من حيث أن الإسلام يعود إلى ما بعد الفترة المعنية باستخدام هذا المفهوم، حيث يشير إلى شعب قديم في سيناء في صراع مع اليهود: الأدوميون (من القرن الثامن إلى القرن الخامس قبل الميلاد). أبعد من ذلك، هو وعد بانتقام تعود أصوله إلى الأساطير القومية. في الوقت نفسه، أدلى العديد من ممثلي الحكومة الإسرائيلية والبرلمان الإسرائيلي بتصريحات عنصرية واحدة تلو الأخرى، متغاضين عن القتل الجماعي للعرب الفلسطينيين، في الوقت الذي انخرط فيه الجيش الإسرائيلي في أكثر العمليات العسكرية دموية في تاريخ إسرائيل، حيث قام بتطهير عرقي للفلسطينيين في غزة، دون أن تتخذ أي هيئة دولية أو دولة الخطوات اللازمة لوقف المذبحة[21]. لكن هذا ليس بالأمر الجديد: فمنذ سنوات عديدة، دأب التيار الصهيوني التنقيحي الذي يدعي معظم أعضاء حكومة نتنياهو الانتماء إليه[22]، بمن فيهم هو نفسه، على مضاعفة التصريحات العلنية التي تستهدف العرب. قبل السابع من أكتوبر بوقت طويل، كان اليمين الإسرائيلي يسير في الشوارع بشعار ”الموت للعرب“ الذي ظهر أكثر من مرة في العقد الأخير على لافتات كبيرة حملها المتظاهرون. بالإضافة إلى ذلك، فإن ممارسة ”هجوم تدفيع الثمن“ التي بدأها المستوطنون المتطرفون المقربون من الوزير الحالي إيتمار بن غفير منذ عام ٢٠٠٨، تشمل كتابة عبارات الكراهية على الجدران وارتكاب أعمال تخريب عنيفة معادية للعرب. وقد دأب بن غفير، إلى جانب بتسلئيل سموتريتش وغيره من ممثلي الحكومة الإسرائيلية، على الدعوة إلى تدمير البلدات العربية، مستخدمين خطابًا عنصريًا صريحًا لا علاقة له بمكافحة الإسلام المتطرف أو الإرهاب[23]. فخطابهم التحريضي لا يستهدف الإسلام، بل يستهدف بوضوح شديد العرق العربي. لقد أضفى صندوق باندورا الذي فتحه المتدينون والممثلون السياسيون الإسرائيليون المقربون منهم شرعيةً على الخطاب العام المنفلت في إسرائيل، مما دفع عددًا من الشخصيات العامة إلى التعبير عن آراء عنصرية وفوقية لا لبس فيها دون أن يتعرضوا لأي رد فعل عنيف. أحد أكثر الأمثلة دلالة على ذلك هو تصريح المذيعة التلفزيونية تسوفيت غرانت عن الفلسطينيين في غزة خلال برنامج تلفزيوني في ديسمبر ٢٠٢٣: فقد وصفتهم بأنهم ”مقرفون، فاشلون مقززون، يمشون بشباشب. أناس بغيضون“. وهذا يقول كل شيء. أخيرًا، عندما يشير يوآف غالانت إلى سكان غزة على أنهم ”حيوانات بشرية“، فإن اختيار المعجم هو مرة أخرى اجتماعيًا عرقيًا وليس دينيًا. ليس هناك حاجة لسرد جميع التصريحات العنصرية التي أدلت بها شخصيات إسرائيلية مؤثرة علنًا لفهم أن العنصرية المعادية للعرب هي الدافع الأساسي وراء السياسات الإسرائيلية.
وإذا ما عقدت هذه المقارنة مع الوضع في فلسطين، فلأنها تجسد تمامًا كل مفارقات المجتمعات الشمالية (الغربية) في علاقتها مع المجتمعات العربية بشكل خاص، والمجتمعات المستعمرة سابقًا بشكل عام، وأيضًا لأن غالبية الإسرائيليين ينحدرون من هذه المجتمعات الشمالية الإمبريالية. وهم على هذا النحو، متخلفون يستوردون إلى الشرق الأوسط طريقة تفكير شديدة الفردانية والإثنية والليبرالية الجديدة التي تتسم بها مجتمعات الشمال. وإذ يعتبرون أنفسهم في طليعة الحضارة والديمقراطية، فإن الغالبية العظمى من الإسرائيليين (الصهاينة) لا يتصورون أبدًا أن العالم العربي مساوٍ لهم، وينكرون حقيقة الثقافات العربية والتقدمية: بالنسبة لهم، لا يمكن للعرب أن يكونوا حداثيين ولا ديمقراطيين. فالعرب هم مجرد عقبة أمام الحداثة الرأسمالية، وعلى هذا النحو يصبح القضاء عليهم هو الضامن الوحيد للنظام الاجتماعي والسلام. مع الإبادة الجماعية الجارية في غزة منذ الثامن من أكتوبر ٢٠٢٣، اتحد اليمين المتطرف في أوروبا بشكل كبير مع دولة إسرائيل، لدرجة أن نهجهم تجاه العرب هو نموذج للإبادة العربية الفعالة. لقد تجاوزت كراهيتهم للعرب والمسلمين معاداتهم التاريخية للسامية، ويبدو أنهم استعادوا فجأةً الجزء اليهودي من هويتهم اليهودية المسيحية، بينما تنكروا للجزء السامي من الهوية العربية.
منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ٢٠٠١ وشن الحرب على الإرهاب التي أطلقتها الولايات المتحدة الأمريكية، احتشد المجتمع الدولي المكون من الدول الأكثر تأثيرًا (الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي، مجموعة السبع، مجموعة العشرين) والدول العميلة لها، خلف المحافظين الجدد الأمريكيين وحملتهم الأيديولوجية والعسكرية ضد العالم الإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن العرب لا يشكلون الأغلبية في العالم الإسلامي، حيث أن أكثر من ٦٠٪ من المسلمين هم من آسيا (إندونيسيا والهند وباكستان وبنغلاديش) و١٥٪ من جنوب الصحراء الكبرى (أفريقيا). ومع ذلك، فإن الحملة الغربية ضد ”الإرهاب“ تتركز بشكل أساسي على العالم العربي وبلاد فارس السابقة (أفغانستان، باكستان، إيران). وعلى أي حال، فإن تهمة الإرهاب كافية في حد ذاتها لإضفاء الشرعية على جميع أشكال العنف ضد الأفراد أو الجماعات المستهدفة: الاعتقالات الإدارية دون تهمة، والاغتيالات خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والحصار وقطع الطعام والموارد عن الناس، والطرد والترحيل، وكذلك ”القصف البساطي“ للمناطق السكنية المتهمة بإيواء أو دعم الجماعات الإرهابية[24]. لقد خضعت قوانين الحرب للكثير من الاستثناءات لدرجة أنها أصبحت بالية. حتى أن جرائم الحرب أصبحت مشرعنة من خلال عقائد عسكرية مثل عقيدة الضاحية التي وضعها رئيس الأركان الإسرائيلي غادي أيزنكوت في عام ٢٠١٠، بعد أن طبقها الجيش الاستعماري الإسرائيلي في لبنان عام ٢٠٠٦. تجيز هذه العقيدة الاستخدام غير المتكافئ وغير المتناسب للقوة للضغط على الأنظمة المعادية، ولا سيما من خلال التدمير المنهجي للبنية التحتية المدنية المرتبطة بالعدو، حتى لو كان هذا القصف ينطوي على مذبحة لمئات المدنيين.
ولا شك في أن الاستراتيجية المتبعة في غزة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ هي التطبيق الصارم لهذا المبدأ، حيث تعرضت مدن غزة وجباليا ودير البلح وخان يونس ورفح وضواحيها ( ٢,١٤ مليون نسمة على مساحة ٣٦٥ كم مربع، أي ٥٩٦٧ نسمة/كم مربع) لقصف مكثف، مما أدى إلى مذبحة مفترضة راح ضحيتها ما بين ٤٠ ألف إلى ٢٠٠ ألف مدني فلسطيني لا يتحملون أي مسؤولية عن هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. إن فكرة ”الضحية الثانوية“، التي كانت أصلاً غير محتملة بما فيه الكفاية، لم تعد مطروحة في الوقت الراهن، حيث تؤكد الحكومة الإسرائيلية التي تمارس الإبادة الجماعية دون أن ترتجف أن جميع سكان غزة مرتبطون بحماس وأنهم ”حيوانات“[25]. وبالتالي، بالمعنى العبري للكلمة، محرقة[26]، وبالتالي إبادة جماعية.
هذا الخطاب العنصري وخطاب الإبادة الجماعية الذي يؤيده ضمنيًا جميع حلفاء إسرائيل، وعلى رأسهم جميع القوى الاستعمارية السابقة، يردد الخطاب العنصري والمعادي للإسلام، وهو خطاب شائع في جميع أنحاء الطبقة السياسية الأوروبية، من أقصى اليمين إلى يسار الوسط، والآن أيضًا من قبل الاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين الذين ما زالوا يسمون أنفسهم اشتراكيين في العديد من البلدان. والأدهى من ذلك أنه حتى اليسار الراديكالي قد تبنى منذ فترة طويلة الكليشيهات ضد الإرهاب، وهو عاجز عن تقديم نقد جاد وذكي للمفهوم وطريقة استخدامه، وقبل كل شيء الانزلاق الشمولي الذي ينطوي عليه الاستخدام السيئ لهذا المفهوم. إن النزعة العرقية للبيض (دعونا نسمي الأشياء بأسمائها) تعني أنه في كل مرة يحدث فيها هجوم مسلح ضد شعبهم أو مصالحهم أو أراضيهم، يعلن اتحاد مقدس أن الوطن أو الديمقراطية مهددة، على الرغم من أن ضحايا الإرهاب الرئيسيين منذ السبعينيات كانوا مسلمين. وقد كانت أفغانستان والعراق والصومال ونيجيريا وبوركينا فاسو وباكستان وسوريا واليمن أكثر البلدان تضررًا على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. في العراق وسوريا، قتلت الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية معظم المسلمين[27]. وعندما يتدخل المجتمع الدولي عسكرياً رداً على الإرهاب، فإنه يدمر المجتمعات المدنية المستهدفة أصلاً من قبل الجماعات المسلحة، وبالتالي يحافظ على التربة الخصبة الكارثية للكراهية والأصولية. والأمر الأكثر إثارة للسخرية – وهذا ما ترفض مجتمعات الشمال فهمه (أو تنكره عن وعي) – هو أن ”الإرهاب“ في الواقع رد فعل دفاعي ذاتي للمجتمعات أو الأفراد الذين سحقتهم الرأسمالية والإمبريالية التي تنبع منها. ما يستمر هذا الواقع في إخفائه بنجاح هو أن الدافع والهدف من الحروب الإمبريالية لم يكن أبدًا إقامة السلام والديمقراطية، بل الحفاظ على الوضع الراهن الفوضوي المتوافق تمامًا مع الافتراس الرأسمالي ونهب الموارد الذي يستتبعه. لم يتم تأسيس نظام ديمقراطي دائم في أي من البلدان التي تدخلت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ الستينيات، بل على العكس تمامًا. أي ديمقراطية عربية من شأنها أن تهدد الاقتصاد الغربي لأنها ستكون مصحوبة بإدارة ذاتية لمواردها وتحدي محتمل للهيمنة الاقتصادية لبلدان الشمال، مع السماح لمواطنيها بالعودة إلى ديارهم والسفر بحرية، دون أن يستمروا في تشكيل قوة عاملة مستغلة حصرياً من قبل القوى الاستعمارية السابقة. وعلى العكس من ذلك، دعمت العديد من دول الشمال، وكذلك الدول البترودولارية في شبه الجزيرة العربية، الجماعات الإسلامية المسلحة في وسط وشمال سوريا، على أمل زعزعة استقرار نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، في حين دعمت الأكراد عسكرياً من أجل الحفاظ على الموارد النفطية في شمال شرق سوريا، والتي تشكل حوالي ٧٠٪ من إجمالي موارد البلاد. وهكذا أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عام ٢٠١٩: ”سنحتفظ بالنفط، لا تنسوا ذلك. نريد الاحتفاظ بالنفط. خمسة وأربعون مليون دولار شهرياً.“
إن التدخلات الغربية هي جزء من سلسلة استعمارية متصلة لم تتغير رهاناتها وأهدافها منذ القرن التاسع عشر. وأحد الأدلة البليغة على هذا التأكيد هو عدم اهتمام المجتمع الدولي التام بالثورة الديمقراطية غير الطائفية لأهالي محافظة السويداء في سوريا، والتي بدأت في أغسطس/آب عام ٢٠٢٣ ولا تزال مستمرة بعد مرور أكثر من عام. إن كون المنطقة ذات أغلبية درزية في الغالب، وهي أقلية يستحيل ربطها بالإسلامية، وكونها لا تملك موارد كبيرة على أراضيها، يجعلها قضية مهملة بالنسبة للأنظمة الرأسمالية التي اعتادت على تأليب الطوائف العرقية والدينية ضد بعضها البعض من أجل جني الأرباح الاقتصادية من الفوضى التي تتولد عنها. لا يمكن أن تكون هناك حركة ديمقراطية عربية تثير اهتمام الديمقراطيات الغربية. فبالنسبة إليهم، ”الديمقراطية“ و”العربية“ تناقض متناقض. فإسرائيل، على سبيل المثال، التي تقدم نفسها على أنها ديمقراطية وتحتل القرى الدرزية في هضبة الجولان منذ عام ١٩٦٧، لا تبدو مهتمة بتشجيع ظهور حركة ديمقراطية غير طائفية بين العرب الدروز الذين يعيشون بالقرب منها. كل ذلك أفضل.
يمكننا أن نفترض بصورة مشروعة أن وجود إسرائيل مهدد أقل من الهجمات المسلحة لحماس وحزب الله من إقامة أنظمة عربية ديمقراطية حقيقية على حدودها. وبالفعل، لا يمكن لديمقراطية عربية حقيقية أن تتحمل وجود الكيان الاستعماري ولن تتوقف أبدًا عن التشكيك في وجوده، على الأقل تضامنًا مع الفلسطينيين الخاضعين لنظام الفصل العنصري العنيف الذي تمارسه. يخطئ من يعتقد أن إسرائيل تعزز السلام والديمقراطية في الشرق الأوسط: فالحرب هي أكثر فائدة لها بكثير، ولهذا السبب أفسدت إسرائيل اتفاقات السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية عن وعي وشجعت على اغتيال مهندسيها إسحق رابين (عام ١٩٩٥) وياسر عرفات (عام ٢٠٠٤)، قبل أن تسهل ظهور حماس بهدف معلن هو هزيمة خصومها المعتدلين غير المنتمين لحركة فتح، ولا سيما مروان البرغوثي الذي يحظى بشعبية كبيرة والمسجون منذ عام ٢٠٠٢ بعد محاولتي اغتيال فاشلتين. حتى يومنا هذا، لم تحمِ إسرائيل الديمقراطية قط، بل على العكس من ذلك، روجت للفاشية للحفاظ على وجودها غير الشرعي، بتشجيع من رعاتها الأمريكيين والبريطانيين، الذين تعتبر إسرائيل بالنسبة لهم أفضل موقع أمامي أو حصان طروادة في الشرق الأوسط.
وهكذا، فإن الحروب الجارية في الشرق الأوسط، وكذلك السياسات المتبعة في أوروبا والولايات المتحدة، تترافق مع عملية إبادة مادية وثقافية دائمة للعرب تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وحماية الديمقراطية والدفاع عن ”القيم الغربية“. وإسرائيل جزء من الاستمرارية المنطقية لهذا النهج التفوقي/الإمبريالي. وبالتالي، فإن التركيز على الإسلاموفوبيا بدلًا من الكراهية العنصرية والإمبريالية متعددة الأقطاب يساعد على إثبات صحة الخطاب الثنائي الغربي ويدعو خصومه إلى التماهي مع جماعات دينية أو قومية بعينها أكثر من التماهي مع حركات التحرر الشعبي الأكثر تنوعًا.
[1] العديد من هذه المستوطنات عبارة عن كيبوتسات، وهو ما لا ينزع عنها صفة الاستعمار.
[2] انظر الخريطة التي أنتجها مشروع التصور الجغرافي في السابع من أكتوبر https://oct7map.com/
[3] حتى تاريخ الثالث من سبتمبر عام ٢٠٢٤، تم إطلاق سراح ١١٧ رهينة، ١٠٧ منهم بعد مفاوضات مع حماس. ولا يزال هناك ٩٧ رهينة في غزة، ويُفترض أن ٣٣ منهم قد لقوا حتفهم.
[4] اختطف مروان البرغوثي وحكم عليه بالسجن المؤبد في نيسان/أبريل عام ٢٠٠٢؛ وتوفي ياسر عرفات في ظروف مريبة في تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٤
[5] https://pcpsr.org/en/node/944
[6] اقرأ روي، أوليفييه؛ فولك، كارول ( ١٩٩٦). فشل الإسلام السياسي. منشورات جامعة هارفارد.
[7] وقد فندت العديد من وسائل الإعلام، بما فيها صحيفة هآرتس الإسرائيلية هذه الأخبار الكاذبة: استندت الأكاذيب إلى بيانات كاذبة من قبل منظمة زاكا الصهيونية غير الحكومية التي تحدد ضحايا الإرهاب وحوادث الطرق وغيرها من الكوارث في إسرائيل وحول العالم. وتجدر الإشارة إلى أن مؤسسها يهودا مشي-زهاف حوكم بسبب سلسلة من جرائم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية التي ارتكبها على مدار عدة سنوات، بالإضافة إلى الاختلاس، قبل أن يموت في غيبوبة في عام ٢٠٢٢ بعد محاولة انتحار.
[8] بين عامي ١٩٣٧ و١٩٤٨، نفذت الإرغون ٦٠ هجومًا ضد المدنيين الفلسطينيين والشرطة الاستعمارية البريطانية، وغالبًا ما كانت تفجر القنابل في الأسواق أو في وسائل النقل العام أو في دور السينما. بلغ عدد القتلى في هذه الهجمات حوالي ٧٠٠ قتيل، معظمهم من المدنيين. في ٢٢ تموز/يوليو ١٩٤٦، فجرت الإرغون قنبلة في فندق الملك داود في القدس، فقتلت ٩١ شخصاً وجرحت ٤٦ شخصاً، بينهم عرب وبريطانيون ويهود. صنفت لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية الإرغون منظمة إرهابية.
[9] كما هاجمت الحملة الصليبية الأولى اليهود في الفترة بين عامي ١٠٩٥ و١٠٩٦.
[10] وفقًا لنتائج دراسة أجراها تحالف مناصرة الفنون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الفترة بين عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦: https://www.menaartsadvocacy.com/
[11] تم أخذ هذه الأمثلة بشكل عشوائي تماماً، ولكن بالطبع القائمة أطول من ذلك بكثير.
[12] في الأول من فبراير/شباط ٢٠٢٤، قام اثنان من المتشددين الفاشيين من جماعة ”لي ريمبارتس“ في ليون، وهما بيير لوي بيرييه وسينيشا ميلينوف، بطعن ثلاثة أشخاص عرب باثني عشر سكينًا أثناء خروجهم من ملهى ليلي.
[13] أدرج ”الصهيونية اليسارية“ للكيبوتسات في فئة القومية المعتدلة.
[14]بدأ ”الإرهاب“ باسم القومية العربية في السبعينيات على يد منظمتي ”أيلول الأسود“ الفلسطينية التي أسسها أعضاء من حركة فتح عام ١٩٧٠، و”مجلس فتح الثوري“ الذي أسسه صبري البنا (”أبو نضال“) عام ١٩٧٤ بتحريض من صدام حسين. اشتهرت الأولى باغتيال رئيس الوزراء الأردني وصفي التل في ٢٨ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٧١، واحتجاز الرهائن وإعدام ١١ رياضيًا إسرائيليًا خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ في ٥ و٦ أيلول/سبتمبر ١٩٧٢. والثاني مسؤول عن الهجمات والاغتيالات التي أدت إلى مقتل أكثر من ٣٠٠ شخص بين عامي ١٩٧٢ و١٩٩٧.
[15] شاهد فيلم ”هانا أرندت“ للمخرجة مارغريت فون تروتا، ٢٠١٢.
[16] أحد الانتقادات الرئيسية الموجهة إلى حنة أرندت هو أنها لا ”تحب اليهود“. في اللغة العبرية، هذا الحب المحدد له اسم، ”أهافات إسرائيل“.
[17] تُفهم الصحراء هنا على أنها المكان الذي يختفي فيه ما يشكل ”العالم“، أي ما يربط بين البشر، أي مجموعة العلاقات الاجتماعية التي تولد فيها السياسة.
[18] في رواية ”سيد الخواتم“ الخيالية للكاتب ج. ر. ر. تولكين ”سيد الخواتم“، موردور هي منطقة في أقصى شرق الأرض الوسطى، وهي معقل سيد الظلام وقوى الشر.
[19] وقد دفع الصندوق القومي اليهودي تكاليف زراعة ٢٤٠ مليون شجرة، معظمها من أشجار الصنوبر التي يعتبرها علماء الطبيعة غازية ويلومونها على إفقار التربة ومنع أنواع النباتات الأخرى من النمو، فضلاً عن كونها سبباً رئيسياً للحرائق.
[20] يشير نتنياهو في حديثه هنا إلى كتابات العهد القديم في سفر التثنية ٢٥: ١٧، التي تشير إلى هجوم الأماليك، أحفاد الأماليك، على العبرانيين أثناء خروجهم من مصر. يجسّد الأماليك في اليهودية العدو النموذجي لليهود دون أن يثبت المؤرخون وعلماء الآثار وجودهم كمجموعة عرقية أو اجتماعية. وإذا كان الأمر كذلك، فمن غير المحتمل أن يكون لهم أي صلة على الإطلاق بالفلسطينيين أو عرب فلسطين.
[21] وحتى وقت كتابة هذا التقرير، أي بعد مرور مائة يوم بالضبط على بدء الحرب، قُتل ٤٠٨٦١ شخصاً من سكان غزة، من بينهم ١٦١٦٤ طفلاً و ١٠٣٩٩ امرأة، بالإضافة إلى ٩٤١٠٠ جريح و ١٠٠٠٠ مفقود. كما قُتل ٢٢٠ من موظفي الأمم المتحدة و ١٧٢ صحفيًا و ٥٢٣ من العاملين في المجال الصحي و ٧٦ من أفراد قوات الدفاع المدني. تم تشريد ما يقرب من ٢ مليون شخص من سكان غزة قسراً وبشكل متكرر في الجزء الجنوبي من قطاع غزة، دون إمكانية مغادرة القطاع. كما تم تدمير٥١٦.٥٠٠ منزل، بالإضافة إلى تدمير ٤٣٩ مدرسة و ٧٦٣ دار عبادة و ١٩ مستشفى.
[22] الصهيونية التنقيحية هي حركة بدأها اليهودي الأوكراني زئيف جابوتنسكي، مؤسس حركتي ”بيتار“ و”إرغون“ اليمينيتين المتطرفتين. وقد دعت الحركة، المستوحاة من الفاشية الإيطالية، إلى ظهور يهودي جديد، وهو اليهودي العبري، كمتميز عن اليهودي السابق. في عام ١٩٣٤، أسس جابوتنسكي أكاديمية بيتار البحرية في إيطاليا بدعم من موسوليني.
[23] تجدر الإشارة إلى أنه في ٢٦ فبراير/شباط ٢٠٢٣، هاجم مئات المستوطنين الإسرائيليين بمساعدة الجيش الإسرائيلي قرية حوارة، حيث قاموا بإشعال النيران المتعمدة والعنف المتعمد على نطاق واسع لدرجة أن الصحافة العالمية وصفت الهجوم بالمذبحة. وقد أعرب وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، عن أمنيته بأن ”تسوى القرية الفلسطينية بالأرض“. كان هذا مجرد مقدمة للعنف العنصري العنصري الذي تكشّف خلال الهجوم على غزة بعد حوالي ثمانية أشهر.
[24] كانت الأمثلة الأولى على ”القصف البساطي“ هي القصف الفاشي لغرنيكا وبرشلونة في عامي ١٩٣٧ – ١٩٣٨ والقصف الياباني لتشونغتشينغ (الصين) في عام ١٩٣٨، قبل أن تصبح هذه الممارسة شائعة من قبل النازيين (وارسو وروتردام ولندن وكوفنتري) والحلفاء (هامبورغ ودرسدن وطوكيو) خلال الحرب العالمية الثانية، ثم من قبل القوات الجوية الأمريكية في فيتنام في الفترة من ١٩٦٤ إلى ١٩٦٥.
[25] تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في التاسع من أكتوبر ٢٠٢٣: ”نحن نفرض حصارًا كاملًا على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود. سيتم إغلاق كل شيء. نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك.“
[26] جاء في قاموس لاروس: ”الهولوكوست (باللاتينية المنخفضة holocaustum، من اليونانية holokaustos، من هولوس، كل، وكاوستوس، محروق) : في إسرائيل القديمة: ذبيحة دينية كانت الضحية فيها حيوانًا تلتهمه النار بالكامل، أي الضحية التي تمت التضحية بها“.
[27] ليس الغرض هنا إنكار وجود العديد من الضحايا من الأيزيديين والأكراد والدروز والمسيحيين والأقليات الأخرى التي يستهدفها الإسلاميون، ولكن الغرض هنا هو مقارنة الأرقام الإجمالية من حيث النسب. لقد حصدت الجماعات الجهادية الثمانية الرئيسية (داعش، طالبان، بوكو حرام، بوكو حرام، حركة الشباب، حركة طالبان باكستان، إسلاميو الفولاني، تنظيم القاعدة في العراق والقاعدة) ما يقرب من مائة ألف ضحية منذ عام ٢٠٠٠.