هل يسخر أحمد الشرع من السوريين؟

لقد كان سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤ تحررًا لا يمكن إنكاره بالنسبة لملايين السوريين، الذين خرجوا فجأة وبشكل غير متوقع من خمسين عامًا من البربرية الشمولية التي حولت سوريا إلى حقل من الخراب ومعسكر اعتقال، اختفى خلالها مئات الآلاف من المدنيين أو أُجبروا على النزوح إلى المنفى.

تحرير وليس ثورة

في التاسع من كانون الأول، أعلن أحمد الشرع نفسه زعيماً لسوريا الجديدة، رافضاً بشكل قاطع كل أشكال تقاسم السلطة واللامركزية والفيدرالية، مع الحرص على عدم استخدام مصطلح الديمقراطية أبداً، قبل أن يعلن في مقابلة مع التلفزيون السوري في ١٥ ديسمبر/كانون الأول – بعد أسبوع واحد فقط من سقوط الأسد – أنه ”من الضروري الآن التخلي عن العقلية الثورية“. من المشروع أن نتساءل: متى كان الشرع ثورياً؟
وفي ٢٩ كانون الأول، أكد الشرع أنه لا يمكن إجراء أي انتخابات قبل أربع سنوات، وهو أمر مفهوم بالنظر إلى الوضع المتردي للمجتمع المدني السوري، ولكنه غير مطمئن على الإطلاق حين يصدر عن شخص يرفض مفهوم الديمقراطية ذاته، مهما كان شكله. وفي الوقت نفسه، أعلن الشرع عن قرب إقرار دستور جديد خلال مؤتمر حوار وطني افتراضي، من شأنه أن ينهي المرحلة الانتقالية. في هذه الفترة، كان أكثر المتفائلين لا يزالون ينتظرون ما سيحدث.
في ٢٩ كانون الثاني، عُيّن الشرع رئيساً للجمهورية العربية السورية من قبل القيادة العامة السورية ( المتجسدة في شخصه) في ”مؤتمر النصر“. وبعد ذلك تم إلغاء الدستور السوري وجميع المؤسسات الموروثة من حزب البعث وديكتاتورية الأسد. لن يندم أحد على هذه المؤسسات.

وفي يوم ١٢ شباط، شكّل الشرع لجنة تحضيرية مؤلفة من سبعة أعضاء[1] لتنظيم مؤتمر الحوار الوطني، والذي استغرق التحضير له عشرة أيام وافتتح في ٢٤ شباط. وضمّ المؤتمر نحو ٦٠٠ شخص – دُعي الكثير منهم قبل أقل من يومين عن طريق الرسائل النصية – واستبعد أي تمثيل للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية. استغرقت المناقشات يومًا واحدًا فقط ولم تحقق شيئًا من الناحية الموضوعية، باستثناء إعادة تأكيد سطحية للاحتياجات التي سبق أن صاغها الجميع: العدالة الانتقالية، واحترام الحريات العامة والسياسية، ودور منظمات المجتمع المدني في إعادة إعمار البلاد، والإصلاح الدستوري والمؤسساتي، واحترام السيادة الوطنية واحتكار الدولة للسلاح. وأضيف إلى ذلك إعلان رمزي يدين التوغل الإسرائيلي.

وفي الثاني من آذار، شكّل الشرع لجنة مكونة من خمسة أعضاء[2] لصياغة دستور مقترح، تم وضعه في غضون عشرة أيام وتم اعتماده في ١٣ آذار لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات. وينص الدستور المقترح على أن يكون الرئيس مسلماً ويجعل من الفقه الإسلامي ركناً من أركان القانون الدستوري، مع التعهد بـ”حماية الأقليات“، كما تعهد بشار الأسد من قبل. وبعد أربعة أيام، تم ذبح عدة مئات من المدنيين العلويين في الساحل.

في ٢٩ آذار، حلّ الشرع الحكومة المؤقتة بقيادة رئيس الوزراء محمد البشير وشكّل حكومة انتقالية بدلاً منها، وعيّن ٢٣ وزيراً[3]، تسعة منهم من هيئة تحرير الشام. أصر المجتمع المدني على احترام التنوع وحقوق المرأة، فعين الشرع المرأة الوحيدة في الحكومة، وهي مسيحية بدورها، في منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية. ولو أراد الشرع أن يكون ساخراً لما كان بإمكانه أن يقوم بعمل أفضل من ذلك. أضف إلى هذا أن جميع الوزراء يتم تعيينهم الآن من قبل الرئيس مباشرة، بينما تم إلغاء منصب رئيس الوزراء. وتجدر الإشارة إلى أن النظام الرئاسي بدون رئيس وزراء لا يختلف كثيرًا عن النظام الملكي.

في أقل من ثلاثة أشهر، نجح أحمد الشرع بمهارة ودون معارضة في فرض نفسه رئيسًا للدولة، وفرض نظامًا رئاسيًا يمكن توصيفه بأنه استبدادي.

انتقال سياسي في ظل اتفاقات أستانة

منذ عام ١٩٧٠، تسير سوريا على خطى راعيها الروسي. من يطلع على نظام السلطة الروسي ويحلل النظام السوري في عهد الأسد سيكتشف ذات أساليب النهب والسلب والفساد القبلي، وذات الازدراء الساخر الذي تبديه النخب الموالية تجاه غالبية الشعب، وذات سياسة التخلي والإفقار المتعمد للمحافظات، ولكن أيضًا وأخيرًا ذات التقديس الجماعي للزعيم حتى وإن كان من الواضح افتقاره إلى الكاريزما. ومن المفارقات أن الأسد وصل إلى السلطة في نفس الوقت الذي وصل فيه بوتين إلى السلطة، فأصبح نسخة منه وتلميذه في آن واحد. فمنذ بداية الثورة الشعبية في عام ٢٠١١، تصرف الأسد تمامًا كما فعل بوتين أو سيفعل في بلده في حال اندلاع ثورة، وذلك بإنكاره لوجود الثورة وتسببه في موت أو اختفاء أو فرار نصف سكان البلاد بدلًا من الشروع في أي مظهر من مظاهر الإصلاح الذي قد يكسبه قدرًا من الدعم الشعبي. العناد والإنكار الإجرامي هما أكثر ما يشترك فيه الأسد وبوتين. الشيء الوحيد الذي يفرقهما حقًا هو أن بوتين لم يختبر بعد انتفاضة شعبية واسعة النطاق، وبالتالي لم تتح له الفرصة لنشر كل خبرته الاستبدادية.

في الواقع، لا يمكن أن يكون هناك ما هو أسوأ من نظام الأسد، والمقارنة الوحيدة الصحيحة ستكون مع الديكتاتورية الستالينية. ويبقى النموذج هو النموذج الروسي دائمًا. وبالتالي، لن يتوقف شبح روسيا عن أن يخيم على حياة السوريين من يوم إلى آخر. والأكثر من ذلك، من المشروع الاعتقاد بأن سقوط الأسد لم يكن ليتحقق إلا بتعاون بوتين أو بموافقته. قبل التباكي على المؤامرة، دعونا نتذكر بعض الحقائق التي نعرفها جميعًا.

ليس لدى روسيا أصدقاء، فقط عملاء وتوابع وأصحاب ديون. لقد عاشت سوريا على الائتمان الروسي ثم الإيراني لعدة عقود، وكان تدخلهم في الحرب الأهلية السورية بدافع الحاجة إلى سداد الديون المتعاقد عليها من قبل عشيرة الأسد. وعلى غرار الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج البترو-ملكية، وضعت كل منها بيادقها على رقعة الشطرنج السورية، وغيّرت تحالفاتها وأولوياتها الجيو-استراتيجية وفقاً للظروف ومصالحها المتقلبة. لقد أصبحت الطوائف والفصائل السورية، رغماً عنها، أو حتى من دون علمها، وكلاء للعبة سرعان ما تجاوزتها. وإذا حاولنا أن نستشف منطقًا قائمًا على تحالفات أو محاور أو معسكرات ذات ترسيمات واضحة المعالم، فلن نقع إلا في الضلال أو الخطأ. فليس هناك صداقات أو تضامنات بين الدول، بل هناك فقط فرص ومناورات.

منذ بداية الثورة في عام ٢٠١١، كانت إيران وحزب الله أول من تدخل لحماية النظام السوري وإبقاء السيطرة على الطرق بين العراق ولبنان، في الوقت الذي كانا فيه يطوران قبضتهما العسكرية والتجارية في سوريا. وفي الوقت نفسه، تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا، بدعم لوجستي من الأردن وبريطانيا وإسرائيل، بتزويد نحو خمسين جماعة مرتبطة بالجيش السوري الحر والمعارضة السورية التي تجسدها الحكومة السورية المؤقتة في المنفى (في تركيا) بالأسلحة، بما في ذلك الجماعات الإسلامية المرتبطة بجبهة النصرة والتي توحدت منذ عام ٢٠١٥ تحت مظلة جيش الفتح. وتعدّ قطر وتركيا من بين الممولين الرئيسيين لجبهة النصرة ( ٢٠١٢ – ٢٠١٧)، تليها جبهة فتح الشام (٢٠١٦ – ٢٠١٧) وهيئة تحرير الشام (٢٠١٧ – ٢٠٢٥).

ومع التدخل الروسي، والاستيلاء على كوباني وهجمات باريس التي شنها تنظيم الدولة الإسلامية في عام ٢٠١٥، تغيرت استراتيجيات جميع الأطراف. فقد ساهمت هجمات باريس، التي أعقبت إفراج الأسد عن السجناء الإسلاميين في عام ٢٠١١، إلى حد كبير في تحويل نظر المجتمع الدولي عن همجية النظام للتركيز على الفزاعة الجهادية. لقد سحبت الولايات المتحدة تدريجيًا دعمها للجماعات السلفية وأعادت توجيهه نحو وحدات حماية الشعب الكردية/ وحدات حماية المرأة ثم قوات سوريا الديمقراطية، مع التركيز على محاربة الدولة الإسلامية، بينما أرسلت روسيا مرتزقتها من شركة فاغنر لتجنيد السوريين في كتيبة صيادي داعش قبل إرسالهم لتأمين مزارع النفط التابعة للنظام أو للعمل كوقود للمدافع في ليبيا (وهو ما فعلته تركيا أيضًا). ولكن في الواقع، كان تنظيم الدولة الإسلامية يُضرب بيدٍ ويُغذى باليد الأخرى من قبل تركيا وروسيا ونظام الأسد الذي لم يتوقف أبدًا عن التصرف في الخلايا الجهادية كما يناسبه، حيث كان يحركها من اليمين إلى اليسار لارتكاب الفظائع لصرف الانتباه عن جرائمه ومؤامراته، أو لزعزعة استقرار بعض المناطق أو السكان الذين يشكلون مصدر إزعاج له، أو لإضفاء الشرعية على استخدام القوة حيث لا توجد أسباب وجيهة كافية. الجهادي هو أداة عملية.

وخلافاً للاعتقاد الشائع، لم تكن روسيا والولايات المتحدة وحلفائهما (الأردن وإسرائيل وتركيا) على خلاف عسكري على الأراضي السورية[4]. بل على العكس، فقد توصلت الولايات المتحدة وروسيا وتركيا في عامي ٢٠١٦ و٢٠١٧ إلى الاتفاق على القيام بعمليات جوية مشتركة تهدف إلى ضرب مواقع تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة[5] [6]. وفي أعقاب ذلك، وقّعت روسيا اتفاقات مع الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن في عام ٢٠١٧[7]  [8] لإبعاد الإسلاميين (حزب الله والدولة الإسلامية) عن مرتفعات الجولان والحدود الأردنية، وهو ما أدى إلى استعادة النظام السوري وروسيا لمدينة درعا في عام ٢٠١٨، مما أدى إلى القضاء على جيب الدولة الإسلامية في حوض اليرموك واستسلام ثوار درعا واندماجهم في عملية التطبيع مع الأسد[9]. وتجدر الإشارة إلى أن جميع الاتفاقات التي وقّعتها روسيا كانت بموافقة بشار الأسد. ومن دون الخوض في مزيد من التفاصيل، من الواضح جداً أنه في السياق السوري لم يكن هناك أبداً أي ازدواجية حقيقية بين ”محور الشر“ و”محور المقاومة“.

في وقت مبكر من عام ٢٠١٥، بدأت شخصيتان مؤثرتان مقربتان من النظامين السوري والروسي، رندة قسيس وفابيان بوسارت، باقتراح تنفيذ عملية سلام في سوريا من خلال عقد مؤتمر في أستانة، كازاخستان. بعد عامين من المحادثات غير المثمرة في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، تم أخيرًا في عام ٢٠١٧ تأسيس مؤتمر أستانة كمنتدى تفاوضي بين روسيا وتركيا وإيران ونظام الأسد وعشرات الفصائل السورية المتمردة بقيادة جيش الإسلام، مع تنحية الأمم المتحدة إلى صفة مراقب. أظهرت روسيا وتركيا بعد ذلك ريادتهما في المناقشات بوضوح شديد، حتى أن روسيا اقترحت مسودة دستور ”جمهورية سوريا“ المستقبلية، حيث تم إدخال نظام لا مركزي وفيدرالي وعلماني يلغي الفقه الإسلامي كمصدر للقانون. عارضت تركيا وجامعة الدول العربية والمعارضة الموالية لتركيا والأسد بشكل قاطع أي شكل من أشكال الفيدرالية. ولفهم مضمون هذه المحادثات ونتائجها بشكل أفضل في ضوء الأحداث الأخيرة، قد يكون من المفيد التذكير بأن روسيا اقترحت تنحي الأسد في عام ٢٠١٢، ولكن هذا الاقتراح رفضته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بحجة أن الأسد ”كان على وشك أن تتم الإطاحة به“. ويبدو أن تركيا قد تقدمت على روسيا في هذه المفاوضات بين عامي ٢٠١٩ و٢٠٢٣، قبل أن تضع طرائق الانتقال السياسي في سوريا من زاويتها الخاصة. وقد اصطدمت روسيا بإيمان بشار الأسد العنيد بأنه لا يقهر ورفضه قبول أي مقترحات للإصلاح الدستوري، لا سيما منذ عودته إلى المسرح الدولي في قمة جامعة الدول العربية في جدة في حزيران عام ٢٠٢٣.

في اليوم السابق لسقوط نظام الأسد، اجتمعت روسيا وتركيا وإيران في الدوحة بحضور خمسة من أعضاء جامعة الدول العربية (مصر والسعودية والعراق والأردن وقطر) لتسجيل انتهاء الأعمال العدائية. في الوقت نفسه، أوقفت القوات الجوية الروسية غاراتها فجأة بعد تسع سنوات من القصف المتواصل، وانسحبت بسلام إلى قواعدها في حميميم وطرطوس حيث لا تزال حتى اليوم تطبيقًا لاتفاقيات الدوحة. وبموجب هذه الاتفاقيات، أعطت روسيا الأسد وعشيرته وحلفاءه ضمانات أمنية وعفوًا مقابل الانسحاب العام لجيشه، بينما تفاوضت إيران على حماية الأماكن المقدسة الشيعية. وفي مساء يومي ٧ و٨ كانون الأول، حزم المقربون من الأسد حقائبهم قبل أن يتم إجلاؤهم بكفاءة بالطائرة من سوريا إلى روسيا ودول الخليج، بمن فيهم بشار الجعفري، المفاوض الرئيسي في اتفاقات أستانة وسفير سوريا لدى روسيا[10]. كل ذلك دون أن تسقط إسرائيل طائرتهم أثناء تحليقها بالطبع.

وفي ٢٩ كانون الأول ٢٠٢٤، أعلن الشرع أن سوريا تتقاسم مع روسيا مصالح استراتيجية عميقة، رافضًا بشكل قاطع تواطؤها  الواضح مع نظام الأسد ومسؤوليتها عن المذبحة التي راح ضحيتها آلاف المدنيين منذ عام[11] ٢٠١٥.

في نهاية كانون الثاني ٢٠٢٥، جاء وفد روسي بقيادة وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف والمبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف إلى دمشق لوضع إطار ومعايير العلاقات الثنائية المستقبلية. ثم وضع الشرع شروطه، مطالباً بتعويضات مالية عن الجرائم المرتكبة وتسليم الأسد إلى سوريا، وهو يعلم تماماً أن روسيا لن توافق على ذلك.

في بداية شهر آذار، وبينما كانت المجازر في الساحل تدفع المئات من المدنيين العلويين إلى اللجوء إلى قاعدة حميميم، عرضت روسيا بشكل منافق المساعدة لتحقيق الاستقرار في سوريا. وقد شهد الشهر التالي بدايات تعاون عسكري جديد مع تركيا وروسيا، حيث اعترف الشرع بأن الجزء الأكبر من المعدات العسكرية السورية تم توريدها من روسيا، وأن سوريا لا تزال تعتمد على العديد من العقود مع روسيا في قطاعي الغذاء والطاقة، وأن حق النقض في الأمم المتحدة يشكل تهديدًا خطيرًا لاحتمال رفع العقوبات التي تؤثر بشدة على البلاد.

ما يمكن أن نستخلصه من كل هذه المعطيات هو أن مصير السوريين سيبقى مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا برغبات أردوغان وبوتين. ويمكننا أن نطلق على هذا القيد اسم ”لعنة أستانة“.

ماذا عن الجهاديين الأجانب؟

لنبدأ ببعض تفاصيل السيرة الذاتية والمعلومات الأساسية.

ولد أحمد الشرع في عام ١٩٨٢ في نفس المكان الذي ولد فيه أسامة بن لادن – الرياض في المملكة العربية السعودية – وعاش في سوريا بين عامي ١٩٨٩ و ٢٠٠٣. قبل بدء الغزو الأمريكي للعراق، ذهب إلى بغداد حيث انضم إلى الفرع العراقي لتنظيم القاعدة الذي أسسه زعيمه أبو مصعب الزرقاوي بعد مبايعة بن لادن. اعتُقل الشرع في عام ٢٠٠٦، ثم قضى خمس سنوات في السجون الأمريكية. وفي الثاني من أيار عام ٢٠١١، أُطلق سراحه بعد القضاء على بن لادن، وأرسل خليفته أيمن الظواهري الشرع إلى سوريا في آب من العام نفسه لتأسيس الفرع السوري لتنظيم القاعدة، جبهة النصرة، بالتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق بقيادة أبو بكر البغدادي في ذلك الوقت. وكما شاءت الأقدار، في الوقت نفسه بالضبط، منح بشار الأسد العفو وأفرج عن مئات الإسلاميين من سجن صيدنايا، بمن فيهم عدد من المتشددين سيئي السمعة[12] الذين أنشأوا في الوقت نفسه، في الأشهر الثلاثة التي تلت إطلاق سراحهم، الجماعات السلفية الرئيسية المسؤولة عن تفتيت الجيش السوري الحر ومن ثم أسلمته: لواء الإسلام وصقور الشام وأحرار الشام.

وفي عالم الجماعات الإسلامية المسلحة، توالت المواجهات المسلحة وحروب القوة والتحالفات الظرفية وإعادة التشكيلات الواحدة تلو الأخرى، وبلغت ذروتها في عام ٢٠١٧ في عمليات اندماج واسعة النطاق داخل الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، برعاية تركيا. تتزامن هذه التغييرات مع المفاوضات الدولية في إطار عملية الأستانة المذكورة أعلاه. وهي اللحظة التي شجعت عددًا من الفصائل الإسلامية، التي تواجه مأزقًا في حرب الخنادق مع نظام الأسد، على تغيير استراتيجيتها وتبني خطاب وطني وثوري، مع تطهير الجناح الأكثر تطرفًا. وكان شريك الشرع منذ عام ٢٠١١، أنس حسن خطاب، يشغل منصب رئيس المخابرات في هيئة تحرير الشام[13]، وهو المنصب الذي يحتفظ به في الحكومة السورية. في هذا المنصب كان مسؤولًا عن القضاء على خصوم هيئة تحرير الشام في منطقة إدلب، ولا سيما خلايا تنظيم حراس الدين وخلايا تنظيم داعش، وهي عملية نفذها بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات التركية والأمريكية.

ثم تم التخلي عن نهجهم الجهادي تدريجياً لصالح الإدارة السياسية والتكنوقراطية للمناطق الخاضعة لسيطرتهم، والتي جسدتها بشكل خاص حكومة الإنقاذ السورية الجديدة. من الواضح أن تركيا وروسيا مارستا تأثيراً كبيراً على تطور الثورة السورية في تلك الفترة، على الرغم من أن الفصيلين الرئيسيين اللذين شكلا هيئة تحرير الشام لم يشاركا في مفاوضات الأستانة[14]. ومع ذلك، لا ينخدع أحد بالدور الذي لعبته الدولتان الإمبرياليتان في لعبة الشطرنج الساخرة هذه.

في ذلك الوقت، كان أحمد الشرع لا يزال أبو محمد الجولاني، ومهما كانت استراتيجيته الشعبوية في ”السورنة“ ليصبح محاوراً موثوقاً على الساحة الدولية، فإن الجميع يعلم جيداً أنه لم يكن قادراً على السيطرة على الوضع دون أن يبقى إلى جانبه كلاب الحرب الجهاديين الذين شكلوا دائماً نواة قواته. ومن بين هؤلاء، مئات القتلة المأجورين من الجهاديين الدوليين الذين كان عليه أن يشكرهم إذ لولاهم ما كان له أن ينتصر في المعركة النهائية للإطاحة بالأسد.
وهذا بالضبط ما حدث بعد سقوط النظام. ففي نهاية كانون الأول ٢٠٢٤، عيّن الشرع العديد من الجهاديين السوريين والأجانب ومجرمي الحرب[15] من دائرته الداخلية في مناصب قيادية في الجيش الجديد، في إشارة إلى قرار الحل المرتقب لهيئة تحرير الشام كشرط مسبق لرفع العقوبات المفروضة على قيادة الهيئة وسوريا. وبعد ذلك بشهر، أعلن ١٨ فصيلًا مسلحًا حلّ أنفسهم للانضمام إلى الجيش الوطني الجديد، على الرغم أنه لم يتم الإعلان عن قائمة رسمية بالفصائل المعنية.

وبشكل واقعي، استفاد المئات من المجرمين من العفو العام وتطبيع الجهاد. وبعد مرور شهر، أعلنت الحكومة الانتقالية أنها تدرس منح الجنسية للمقاتلين الأجانب المناهضين للأسد الذين عاشوا في سوريا لعدة سنوات، وهو قرار لن يمنع رفع العقوبات المفروضة على سوريا، على الرغم من أن هذا يبدو مطلباً رئيسياً من جانب الولايات المتحدة. ويبدو أن مكافأة مرتزقتها تبدو أكثر أهمية من التخفيف من معاناة السوريين في نهاية المطاف: تطبيع الجهاد الدولي أو الثورة السورية، كما يبدو أن الشرع قد اختار. من الواضح أيضاً أن رجل دمشق القوي الجديد قد لا يكون لديه حرية الاختيار الكاملة، وأنه بعد أن أمضى سنوات في محاولة تطهير صفوفه من العناصر الأكثر تطرفاً بناء على نصيحة سديدة من عرابه التركي، لا أحد يعرف أكثر منه أن الطريقة الوحيدة للاستمرار في السيطرة على قطيع مسعور هي أن تبقيه قريباً منك وتشاركه قطعاً من الوليمة. كما أنه لا يجهل أن العديد من الجهاديين يريدون التخلص منه، خاصة وأنه الآن يصافح جميع أعدائهم الألداء.

ولتوضيح هذه المحاباة، أعلنت الحكومة المؤقتة قبل أيام قليلة أنها بدأت عملية سحب الجنسية من حوالي ٧٤٠ ألف مقاتل أجنبي موالٍ للأسد، من بينهم إيرانيون وعراقيون وأفغان وباكستانيون ولبنانيون. حيثما وجدت الإرادة، وجدت الطريقة. وبدلاً من ضمان تحقيق العدالة في جميع الجرائم المرتكبة ضد السوريين، فإن قرار الشرع يؤكد أن المرتزقة الأجانب ليسوا جميعاً في قارب واحد. وبالتالي يمكن لمرتزقته أن يستمروا في اضطهاد الكفار والزنادقة بسلام.

الطائفية والعشائرية: آفتا سوريا


عندما همست تركيا في أذن الشرع بأهمية عدم ترك المجال مفتوحاً أمام المطالب الفيديرالية، كانت هذه رسالة واضحة للفصائل الكردية المسلحة، وأيضاً لأي قوى مسلحة وسياسية أخرى من الأقليات. فكر الجميع على الفور في العلويين والدروز. فالعلويون ليس لديهم فصائل مسلحة على أساس مطالب طائفية، باستثناء بقايا النظام الذين ما زالوا مختبئين هنا وهناك، لكنهم لا يمثلون طائفتهم ولا يحمونها، بل هم من بقايا النظام. أما الدروز من جهة أخرى، فيستفيدون من هياكل دفاع ذاتي قوية للطائفة يجسدها أكثر من عشرين فصيلًا، ملتزمين بحماية سلامة طائفتهم ومصالحها وهويتها الثقافية، وفي الوقت نفسه يستفيدون من شبكات تضامن قوية بين الجاليات الدرزية في الخارج، لا سيما في فلسطين المحتلة ولبنان وبين المغتربين في بقية أنحاء العالم.

تمثل الطوائف الثلاث بالنسبة للسلطة الجديدة في دمشق علاقات قوة ورهانات دبلوماسية كبيرة، بل وتهديداً لمشروع الدولة المهيمنة والمركزية وأحادية الطائفة الذي يدافع عنه الشرع ورعاته الدوليين الرئيسيين: تركيا وقطر والسعودية. وعلاوة على ذلك، فإن روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل تتربص لاستغلال مطالب الطوائف الثلاث بالحكم الذاتي أو اللامركزية، في حين أن أوروبا والأمم المتحدة تطبق على الدوام نفس المخططات الأبوية التي تجعلنا نعتقد أن الأقليات تحتاج إلى حماة – وبالتالي إلى حماية – على الرغم من أن غالبية السكان الذين نتحدث عنهم لا يرغبون في أن يكونوا تحت وصاية أو حماية قوى أجنبية. ولكن بغض النظر عن الرأي الحقيقي لمختلف السكان، فإن الطائفية التي روج لها نظام الأسد لعدة عقود لا تزال سائدة فوق أي اعتبارات المساواة أو الديمقراطية. تتضافر نظريات المؤامرة والتحليلات الثنائية وحتى التحليلات التي تستند بوضوح إلى تحيزات طائفية أو معادية للأجانب مع الدعاية العدوانية لمختلف الإمبرياليات لإنتاج سيل مستمر من الضجيج الإعلامي الذي يستحيل معه الرؤية بوضوح أو الحفاظ على هدوء الأعصاب. على عكس ما كان عليه الحال في عام ٢٠١١، عندما كانت وسائل التواصل الفوري لا تزال غير متطورة نسبيًا، فإن شبكات التواصل الاجتماعي تنضم الآن إلى وسائل الإعلام التقليدية في نشر وإعطاء مصداقية لأكثر الشائعات غير القابلة للتصديق، والتي هي مع ذلك ذات مصداقية كافية لتحريض أي شخص على العنف وإنكار الجرائم المرتكبة. هكذا، عندما سقط النظام، انتهى المطاف بخيالات الغرب المذعورة حول مذبحة الأقليات إلى أن تتحقق جزئيًا عندما سقط النظام، مثل الكثير من النبوءات التي تحقق ذاتها بنفسها، ولكن بشكل أقل مما كان متوقعًا.

قبل أن نواصل، لا بدّ من التمييز بين سيناريو المجازر التي وقعت في الساحل السوري في بداية شهر آذار والمواجهات العنيفة التي استهدفت الطائفة الدرزية في بداية شهر أيار. ففي الحالة الأولى كانت فلول النظام المخلوع الذين اجتمعوا في مجموعات أطلق عليها ”لواء درع الساحل“ و”المجلس العسكري لتحرير سوريا“ و”المقاومة الشعبية السورية“[16] هي التي بدأت المواجهة مع السلطة المركزية في دمشق. وتشير العديد من المصادر إلى أن هذه المجموعات المكونة من مجرمي الحرب والجلادين الذين ظلوا موالين للأسد، كانت مدعومة من روسيا و/أو إيران في محاولة لإثارة عودة السلطة في الساحل وحتى خارجها. ومهما يكن من أمر، شنّ هؤلاء الفلول الذين لا يتجاوز عددهم بضع مئات هجومًا منسقًا على نقاط التفتيش والمباني الحكومية والمستشفيات، واستولوا على أحياء كاملة في بلدات جبلة وبانياس والقرداحة وهاجموا المدنيين وقوات الأمن التي وصلت لوضع حد للفتنة بشكل عشوائي.

في صفوف الأمن العام واستجابة لدعوته للتطوع على تطبيق تلغرام[17]، اندفع إلى الساحل آلاف المقاتلين المتطرفين المنتمين بشكل أو بآخر إلى الجماعات السلفية، وهم بدورهم ينتمون بشكل أو بآخر إلى الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام، بقصد الانتقام من الموالين والطائفة العلوية المدنية التي ينحدرون منها. بعض هذه المجموعات لم تحل نفسها بل وتناصب الشرع العداء، وتعتبر الأمن العام أحد الأذرع المسلحة للطائفة السنية التي تسعى للانتقام. وقد أسفر التمرد الموالي وما تلاه من تطهير عرقي وطائفي عن مقتل ما بين ٨٢٣ و١٦٥٩ مدنيًا ومقتل حوالي ٢٦٠ مقاتلًا من كل طرف[18]، حيث شارك الطرفان في مذبحة المدنيين.

أما في الحالة الثانية، فقد بدأ كل شيء بنشر تسجيل مفبرك يسيء إلى النبي محمد ونُسب إلى شيخ درزي يدعى مروان كيوان. من جدال على شبكات التواصل الاجتماعي، تطور الوضع سريعًا إلى شغب طائفي ومعادٍ للأجانب في جامعة حمص، بتحريض من طالب الهندسة البترولية عباس الخصواني، الذي شارك في الهجوم الدموي على الطائفة العلوية في الشهر السابق. وقد تم تصوير الطالب وهو يلقي خطاب كراهية ضد الدروز والعلويين والأكراد، ثم قام حشد من الطلاب بالتجول في حرم الجامعة ومهاجمة الطلاب الذين يبدو أنهم من غير المسلمين بشكل عشوائي. وقد شكرت الحكومة الانتقالية في البداية مثيري الشغب على غيرتهم الدينية دفاعاً عن النبي، قبل أن تنفي بخجل صحة التسجيل الصوتي. في الساعات الثماني والأربعين التي تلت ذلك، اقتحمت مجموعات مسلحة بلدات جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا ذات الأغلبية الدرزية (والمسيحية) رغم أنه ليس من الواضح من هي هذه المجموعات. إلا أن عدداً من المصادر المتفقة تشير بأصابع الاتهام إلى شبكات مؤلفة من بدو ومقاتلين إسلاميين من دير الزور ودرعا والغوطة. ورداً على ذلك، استنفرت الفصائل الدرزية في السويداء وانطلقت قافلة على الطريق إلى دمشق لدعم  الفصائل المحلية في صحنايا. أعقب ذلك كمين مميت قتل فيه أكثر من أربعين مقاتلاً درزياً، قبل أن تتعرض حوالي عشر قرى في منطقة السويداء للهجوم بدورها لمدة ثلاثة أيام من قبل مجموعات من درعا والقبائل البدوية في المنطقة. وفي النهاية انتشر الأمن العام حول المحافظة لمنع دخول مجموعات أخرى من درعا، لكن هذا التضييق على المنطقة ترافق مع ضغوط على القادة الدروز للموافقة على نزع سلاح الفصائل ودخول قوات الأمن العام إلى السويداء، وهو ما تم رفضه. وفي المقابل، تم الاتفاق على تفعيل دور الشرطة والأمن العام في المحافظة بشرط وحيد وهو أن يكون جميع أفرادها من أبناء المنطقة. وعندما انسحب الأمن العام من القرية الوحيدة التي كان يحتلها، وجد السكان منازلهم وأماكنهم المقدسة محروقة ومنهوبة. بعد يومين من انتهاء الأعمال القتالية، غادر عشرات الطلاب من السويداء جامعاتهم في دمشق وحمص، بينما بقي الطريق إلى دمشق مهدداً من قبل الجماعات المسلحة التي أطلقت النار على السيارات ووضعت حاجزاً تحت سيطرتها، بينما بدا الأمن العام عاجزاً أو متواطئاً. من جهة أخرى، قامت الحكومة الانتقالية بشكل مفاجئ بتعيين ثلاثة من زعماء القبائل البدوية في دير الزور على رأس جهاز المخابرات وهيئة مكافحة الفساد والمجلس الأعلى للقبائل والعشائر البدوية[19]. ومن المشروع التساؤل عما إذا كان ذلك إرضاءً طوعياً أم نتيجة ابتزاز وضغوط مارستها القبائل البدوية القوية في اتحاد قبيلة العكيدات للحصول على قطعة من الكعكة.

إن ما تقوله هذه الأحداث عن سوريا اليوم هو أنه لا يمكن أن تبقى رئيساً لسوريا دون أن تفاقم النعرات والتوترات الطائفية من جهة من أجل الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق، ومن جهة أخرى أن تحظى بتأييد أكثر القوى رجعية في البلاد وحلفائها في الخارج. كما أن ذلك يؤكد أن المجتمع السوري لم يتعافَ ولن يتعافى قريبًا من أمراض الطائفية والعشائرية التي ترافقها. فبعد عقود من الانحدار الفكري والتراجع السياسي الذي تحقق بسياط حزب البعث القومي الاشتراكي، عادت سورية تدريجياً إلى ردود الفعل القبلية والعشائرية القديمة التي كانت موجودة قبلها. ضمن هذه الأرضية الخصبة، عاد النموذج الإسلامي الرافض للعلمانية والديمقراطية والتمثيل الشعبي إلى إطلاق يد رؤساء العائلات الكبرى (الشيوخ) وأمراء الحرب وغيرهم من الأمراء الذين سيحدد مدى قربهم من هذه السلطة وشرعيتهم في تقاسم منافعها. إن استيلاء الشرع على السلطة أثبت أن كونك الأقوى يكفي لأن تكون شرعيًا. ومن كان قادرًا على إظهار القوة المسلحة بالإضافة إلى الولاء سيكون مشكورًا على النحو الواجب. وهذا ما حققته قيادات الجماعات المسلحة التي قاتلت من أجل إسقاط النظام، والتي اتفقت على حلها داخل الجيش الوطني. وهو أيضاً ما قد يكون اتحاد قبيلة العكيدات قد حصل عليه للتو بعد استجابته لدعوة تلقين ”زنادقة“ السويداء درساً، مع موافقته على الانسحاب بمجرد حصول الحكومة على تسوية مبدئية من القادة الدروز.

وتشهد المغامرة الرجولية والقديمة المتمثلة في عبور الصحراء لإخضاع جيرانهم المتمردين لإثبات ولائهم للسلطان وباشاواته على العودة إلى النموذج الإقطاعي الذي سبق الانتداب الاستعماري الفرنسي. ما يميزه ويعطي الوضع الحالي بعدًا أكثر رعبًا هو استمرار ممارسات التجريد من الإنسانية العنصرية والإبادة الجماعية التي أدخلها المستعمرون الغربيون، والتي تم تكييفها مع السياق المحلي من قبل الجهاديين[20] منذ الثمانينيات، وبلغت ذروتها في عهد الديكتاتورية الأسدية. لا شك أن أبرز تعبير عن هذه الأنماط الجديدة من الإرهاب الفحولي هو تصوير الرجال العلويين وهم ينبحون والدروز بينما يحلقون لهم شواربهم، قبل أن يتم اقتيادهم مكبلين بالأغلال إلى جهة مجهولة.. في الحقيقة، لا يوجد ما يميز هذه الممارسة العنصرية عن تلك التي يستخدمها الجنود الإسرائيليون ضد العرب الفلسطينيين، مما يعزز فكرة أنها مستوردة من الغرب. ويبدو أن نسبة كبيرة من الجيل الشاب من المسلمين السنة الذين لم يشاركوا في ثورة ٢٠١١ ولكنهم نشأوا خلال الحرب الأهلية يتبعون مسارًا مشابهًا لمسار شبيحة بشار[21] في إثارة الفتنة، خاصة من خلال إغراق نشرات الأخبار وشبكات التواصل الاجتماعي بالمنشورات والتعليقات الطائفية التي تدعو إلى الانتقام والقتل باسم الدفاع عن هويتهم العرقية والطائفية التي يزعمون أنها مهددة. إن منطق جنون الارتياب هذا المتمثل في الاعتقاد بأن كل من حولنا يريد تدميرنا يؤدي بطبيعة الحال إلى رد فعل الانكفاء على الذات والالتفاف حول القائد الكاريزمي الذي من المفترض أن يضمن حمايتنا. لذلك ليس من المستغرب أن نرى الشرع يُقدَّم من قبل المسلمين السنة – لا سيما الشباب منهم – كبطل ثورة قامت بها طائفتهم ومن أجلها حصريًا، بينما تُحرم الطوائف الأخرى من مساهمتها في الثورة ضد الأسد. ويبدو أن ثورة السوريين جميعًا قد اختطفت من خلال الخطابات التبريرية والغيبية التي تقدم استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة كإنجاز إلهي يشبه عودة الأمويين عند البعض، أو العثمانيين عند البعض الآخر. إنها مكافأة الأمة. لذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن يحتفل الشرع بانتصاره في المسجد الأموي، وأن تتم دعوة أئمة التكفير القدامى مثل الشيخ عدنان العرعور – الذي اشتهر بتطعيم خطبه بشكل منهجي بالكراهية بين الأديان – إلى سوريا بعد سنوات من  المنفى والترحيب بهم كعقول مدبرة لثورة سنية انتصرت على ” ٤٥ عامًا من حكم الأقلية ”[22]. في هذه الأثناء، وفي الظل، فإن أغلبية السوريين المسلمين السنة المعتدلين والتقدميين والمسالمين – بما في ذلك الأكراد الفيدراليين – يتم تهميشهم مرة أخرى من قبل تطرف أقلية تحرض تحت الأضواء وتمارس السلطة بقوة السلاح.

يؤدي التفسير الطائفي المتطرف للعلاقات الاجتماعية والسياسية من قبل رجال الدين الأصوليين، والذي لا يزال أعضاء الحكومة ومؤيدوهم ينتمون إليه، إلى تبسيط خطير يؤدي إلى تبرئة عائلة الأسد من مسؤولية ديكتاتوريتها التي ألقيت على عاتق طائفة بأكملها، العلويين، أو حتى جميع الأقليات المرتبطة بهم: الشيعة والدروز والإسماعيليين وحتى المرشديين[23] الذين لا يكاد يسمع عنهم أحد سوى أن عشرات من أفرادهم أعدموا منذ كانون الأول على يد ”مجهولين“ في اللاذقية وحماة وحمص. وبالمثل، قُتل عدة مئات من المدنيين، بمن فيهم أطفال ونساء، منذ سقوط النظام، وخاصة في ريف حمص، حيث شهدت بعض القرى إعدام العديد من سكانها في نفس اليوم على يد مجموعات مسلحة تعمل في إطار ”العمليات الأمنية“ التي يقوم بها الأمن العام أو بالتوازي معها[24]. إذًا ليست الثورة التي تجري في سوريا منذ كانون الأول ٢٠٢٤، بل انتقام ٥٠ إلى ٦٠٪ من السوريين من كل ما عداهم. ونتيجة لذلك، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل إحجام السلطة الجديدة عن تطبيق آليات العدالة الانتقالية اللازمة لاستكمال الثورة: ليس فقط لأن ذلك ليس أولوية لأنها ستسلط الضوء على اضطهاد جميع الطوائف دون استثناء، بل لأن ذلك سيؤدي إلى تجريم ومحاكمة العديد من ممثلي هذه السلطة الجديدة أنفسهم عن جرائمهم[25].

لا عدالة انتقالية، لا سلام

المطالبة بالعدالة كانت مطروحة من قبل مجموعات من أهالي المفقودين منذ الساعات الأولى بعد سقوط النظام، عندما كان العالم يتظاهر بأنه يكتشف للمرة الأولى حجم الرعب الذي كان يمثله النظام. يُجمع المجتمع السوري الذي عانى من العنف دون أن يكون في وضع يسمح له بإحداثه على أنه لا يمكن أن يكون هناك سلم اجتماعي ولا نظام يحترم السوريين دون عدالة انتقالية.  إذا أرادت المجتمعات السورية أن تتعافى من نصف قرن من الديكتاتورية وتعيش معًا مرة أخرى، فلا خيار أمام ممثلي الحكومة الجديدة سوى المضي بأسرع ما يمكن في اعتقال جميع رموز النظام وكل من شارك بشكل فعال في إخفاء وتعذيب وقتل عشرات الآلاف من السوريين. بالطبع، عندما نتحدث عن العدالة، فإننا لا نتحدث عن إعدامات فورية ومحاكمات صورية وجلسات استماع خلف الأبواب المغلقة وعمليات قتل علنية تعيد إنتاج الصدمات التي ولدتها الهمجية التكفيرية، بل عن عدالة شفافة تحترم المبادئ الأساسية لحق الدفاع وكرامة المتهم. الانتقام بالدم والإذلال بالدم ليس ما يحتاجه المجتمع السوري. بل على العكس، إذا ما أراد أن يتجدد ويخرج من دائرة العنف، فهو بحاجة إلى إظهار العدل والنزاهة، ولكن أيضاً الشدة تجاه من لم يظهر تجاهه سوى السادية والقسوة. يجب أن يبقى الهدف هو الصمود وليس مجرد إشباع غرائز الانتقام في المقام الأول.

ومن الواضح أيضاً أن المحاكمة الممنهجة لجميع أفراد جيش النظام المخلوع وميليشياته غير ممكنة وستكون مهمة في غاية الخطورة التي ستؤدي بدورها إلى تطهير واسع النطاق وتصفية حسابات لا نهاية لها. في مقابلة قيّمة للغاية مع مدير الشبكة الوطنية السورية لحقوق الإنسان، فاضل عبد الغني، نشرها موقع عنب بلدي السوري[26]، يصف عبد الغني عملية العدالة الانتقالية التي يمكن تطبيقها في سوريا. يميّز عبد الغني في هذا الحوار بين المكوّن القضائي والمكوّن المدني، حيث يأخذ الأخير شكل لجان ”الحقيقة والمصالحة“. وهو يقدّر عدد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتبطة بالنظام السابق بحوالي ستة عشر ألفاً ومائتي شخص، يُعتقد أن نسبة ٩٠٪ منهم من العسكريين، ويعتبر أن ضباط الجيش من الرتبتين الأولى والثانية فقط هم المعنيون بالإجراءات الجنائية، بينما سيتم إدراج الضباط من الرتبة الثالثة إلى السادسة في برنامج لجان المصالحة. ولن يتم استثناء المسؤولين غير العسكريين، بمن فيهم رجال الأعمال، من الملاحقة القضائية.

ومن المستحيل حاليًا معرفة ما إذا كان هذا الإطار المتماسك قد تم قبوله وتنفيذه من قبل السلطات الجديدة. وبصرف النظر عن البيان المقتضب الذي أصدرته وزارة الداخلية على صفحتها على تطبيق تيليجرام إبان اعتقالهم، لا توجد آلية شفافة لمعرفة ما حدث لمن هم قيد التحقيق. لم يتم ذكر أي محكمة خاصة، ولا أي مهلة قضائية. على مدى الأشهر الأربعة الماضية، أظهرت الحكومة التي نصبت نفسها بنفسها عدم التزام مؤسف تجاه هذه القضية، كما أن الإفلات من العقاب الذي يتمتع به بعض كبار مجرمي النظام السابق يساعد على تآكل ثقة السوريين. لقد كان الإجلاء الدبلوماسي لعشيرة الأسد إلى روسيا والإمارات العربية المتحدة خيانة للسوريين وللثورة بالفعل. وكان تعيين سلسلة كاملة من التكفيريين ومجرمي الحرب في مناصب المسؤولية مع وعد التكفيريين الأجانب بالحصول على الجنسية خيانة ثانية.

وبالإضافة إلى هذه القرارات السيئة للغاية التي تم اتخاذها باسم الاستقرار قصير الأمد، قامت السلطات الجديدة كذلك باعتقال عدد من المجرمين سيئي السمعة من النظام السابق، لتقوم بإطلاق سراحهم بسبب ”عدم كفاية الأدلة“ أو لتقوم بـ”تسوية أوضاعهم“ أو حتى لمنحهم عفوًا صريحًا. وأفضل مثال على ذلك هو بلا شك القائد العام لقوات الدفاع الوطني، فادي أحمد الملقب بـ”فادي صقر“، المسؤول المباشر عن العديد من المجازر، وأشهرها مجزرة التضامن التي وقعت في نيسان عام ٢٠١٣، وطلال شفيق مخلوف القائد العام للحرس الجمهوري ومدير مكتب القائد العام للجيش والقوات المسلحة والمسؤول المباشر عن قتل العديد من المتظاهرين خلال الاحتجاجات السلمية في دوما وحرستا ونوى ودرعا في عام ٢٠١١.  ويمكننا أن نضيف إلى هذه الحالات حالة محمد غازي الجلالي، وزير الاتصالات السابق ثم رئيس الوزراء، ومحمد الشعار، وزير الداخلية السابق[27]، وعدد من الشخصيات رفيعة المستوى الأخرى في الجهاز القمعي لنظام الأسد، الذين استفادوا منذ ذلك الحين من إجراءات ”تسوية أوضاعهم“ مقابل تعاونهم. في السابع من شباط ٢٠٢٥، ردّ أهالي التضامن بغضب على زيارة فادي صقر إلى مسرح جرائمه بصحبة مسؤولين في الأمن العام، بهدف ”تبرئة“ نفسه من خلال إدانة شركائه السابقين[28]. وبعد مرور شهرين، كان غياب السلطات واضحاً في إحياء ذكرى مجزرة ١٦ نيسان، في حين لم يتم إقامة أي طوق أمني أو تحقيق جنائي جدير بالذكر حول مجموعة المباني التي كانت لسنوات عدة بمثابة ”منطقة قتل“ للدفاع الوطني، والتي لا تزال المقابر الجماعية فيها موجودة دون شك. بل على العكس من ذلك، تم تعيين فادي صقر على رأس لجنة المصالحة التي أُرسلت إلى الساحل السوري في أعقاب المجازر في بداية شهر آذار، وهو المنصب الذي تفاوض من خلاله على إطلاق سراح ضباط نظام الأسد السابقين الذين تم اعتقالهم في تلك المناسبة. أقل ما يمكننا قوله هو أن التعاطف ومراعاة صدمة الضحايا والناجين ليست من السمات المميزة للسلطات الجديدة. وفي الآونة الأخيرة، واصل موظفون آخرون سيئو السمعة من النظام المخلوع الظهور العلني واستغلال مكانتهم الاجتماعية المتميزة، بل والظهور بشكل متباهٍ إلى جانب ممثلي السلطات الجديدة[29].

وأخيراً، وربما الأكثر إثارة للقلق، أظهرت السلطات الجديدة تجاهلاً صارخاً لملفات السجناء والمختفين[30]، تاركةً العائلات دون دعم أو أجوبة[31]، بينما أهملت لأسابيع عديدة حماية أرشيف أكثر من 800 جهاز أمني وأماكن الاحتجاز قبل أن تقرر أخيراً تقييد وصول الجمهور إليها جزئياً[32]. ساحة المرجة في دمشق، حيث اعتاد أقارب المختفين الاجتماع في الأسابيع التي أعقبت سقوط النظام لدعم بعضهم البعض وجمع المعلومات، تم تنظيفها فجأة من مئات صور المختفين في كانون الثاني في إطار حملة تنظيف واسعة بدأها الدفاع المدني بعنوان ”عدنا يا دمشق”، في حين تسببت مجموعة تدعى  ”أيادي الخير” بفضيحة من خلال تغطية النقوش التي تركها السجناء على جدران أحد السجون بلوحات تمجد الثورة، بموافقة مسبقة من السلطات. إن اللامبالاة والإهمال، أو حتى التلهف على تبييض صفحة الماضي لا يبعث على الاطمئنان، حتى لو وجد أكثر المتفائلين سبباً وجيهاً لإقناع أنفسهم بأن الأمور عادية ومن الطبيعي أن تستغرق وقتاً، وأن السلطات تبذل قصارى جهدها أو أن العمليات الجارية تقدم إشارات مشجعة. ومع مرور خمسة أشهر على سقوط النظام، فإن هذا الإصرار على النسبية وغياب الحكم النقدي حول طبيعة ومسؤوليات معظم ممثلي أجهزة الدولة الجديدة بات يتسم بالسذاجة وعدم المبالاة. أما بالنسبة لأقارب الضحايا والمفقودين، فلا يزالون مدفوعين بنفس الأمل الذي مكنهم من البقاء على قيد الحياة طوال هذه السنوات. لم يتم القيام بأي شيء حقيقي، لا بالفعل ولا بالقول، لتمكينهم من العثور على السلام.

سوريا، مجتمع معدم تديره دولة متسولة

إن الحالة الكارثية التي ترك فيها الأسد البلاد تشهد ليس فقط على المقاومة والصمود المذهلين للشعب السوري، بل أيضًا على قدرة البشر التي لا تقدر بثمن على البقاء على قيد الحياة في أبشع الظروف. عندما ننظر إلى الاقتصاد السوري، ندرك إلى أي مدى وصلت إليه البلاد من دمار في بنيتها التحتية. والتخريب هو أقل ما يمكن أن يقال عنه: سوريا عبارة عن جثة مجوفة صدئة، بدأ هيكلها العظمي يتآكل بالفعل قبل سقوط النظام. كان جنود النظام يبيعون الأثاث والبضائع المنهوبة لإطعام أنفسهم، وعندما حانت النهاية، لم ينتظروا حتى اقتراب العدو قبل أن يتخلوا عن أسلحتهم وزيهم العسكري، بينما كان السكان يندفعون إلى جميع المباني العامة لنهب كل ما يستطيعون. الأمر الأكثر إثارة للدهشة في سوريا بعد ذلك هو الطبيعة المطلقة لعمليات النهب: لم يقتصر الأمر على الأثاث الذي تم نهبه، بل تم اقتلاع الكابلات والأنابيب والأبواب والنوافذ والبلاط والقرميد، وصولاً إلى العوارض المعدنية والطوب والكتل الحديدية التي تشكل هيكل المباني. ناهيك عن المركبات (بما في ذلك الدبابات) والأشجار التي تم تقطيعها أو اقتلاعها بشكل منهجي، ليتحول المجال العام بأكمله إلى أرض قاحلة. وإذا ما أمعنت النظر في البلدات والأحياء التي سويت بالأرض بفعل القصف، سترى أيضًا أن جميع المباني التي كانت مدمرة قد تم تجريدها تمامًا من كل شيء فيها، كما لو أن كل شقة من آلاف الشقق التي تم هدمها بهذه الطريقة قد تم تفريغها من كل ما تحتويه. وقد تم تنفيذ ذلك من قبل عملاء النظام وجنوده، حيث أن بعض المناطق كانت محظورة على السكان حتى سقوط الأسد. بين دمشق ومحافظة السويداء، وصل الأمر باللصوص إلى حد هدم أعمدة الكهرباء ذات التوتر العالي وتقطيعها ونزع الكابلات الكهربائية التي تزود آلاف المنازل بالكهرباء. هناك حالة من الهيجان في كل مكان، وكل جزء من هذا الوحش يساوي شيئاً.

النهب هو أحد الآفات الرئيسية التي تعاني منها سوريا الجديدة. كانت هذه الظاهرة موجودة قبل سقوط النظام ولا يمكن إلقاء اللوم على السلطات الجديدة، على الرغم من أنها ازدادت ولا يبدو أنه تم فعل أي شيء على الإطلاق لوضع حد لها أو لحماية البنية التحتية. إن التقدم الوحيد الذي يمكن أن يضع حداً لهذا التخريب الذاتي من قبل الشعب السوري نفسه هو استعادة الاقتصاد المستقر، أو على الأقل حدوث تحسن ملموس فيه. لكن يبدو أن البنك المركزي السوري قرر تطبيق أسلوب محفوف بالمخاطر، من خلال تقييد السيولة[33] مع رفض التدخل في سعر الصرف[34] وكبح المضاربة غير المشروعة في الليرة السورية، وهو ما يؤدي إلى تقلبات شديدة في سعر الصرف وخسائر كبيرة في أموال السوريين، في بلد لا يزال ٩٠٪ من سكانه يعيشون تحت خط الفقر. أما المستفيدون الرئيسيون فهم المضاربون، في حين لم يرتفع حجم الاستثمار والإنتاج المحلي أو الصادرات. لا تطبع الحكومة أي عملة جديدة، ولا تتدخل لحصر صرف العملة في مكاتب الصرافة الرسمية، حيث يستغل مئات التجار الصغار هذا النشاط لتحقيق الربح. في الوقت نفسه، بدأت الأسواق تغرق بالمنتجات منخفضة الأسعار، خاصة من تركيا، مما يهدد الإنتاج المحلي الهش أصلاً[35]، في حين لم يشهد دخل السوريين أي ارتفاع ملحوظ، كما أن معدل البطالة تجاوز نسبة ٢٥٪. ويبدو أن الحكومة الجديدة تعتمد بشكل حصري على الاستثمار الأجنبي. وبالتالي، فإن الوضع الحالي ينذر بافتراس رأسمالي قادم، ومعه شكل آخر من أشكال النهب الواسع النطاق، والذي سيستفيد منه المضاربون وليس عموم السوريين. ونعلم هذا النمط جيدًا، يكفي أن ننظر إلى الوضع في لبنان واليونان.

من هذا المنظور الانتهازي، لم تنتظر الدبلوماسية الدولية أسبوعين لتعود إلى مسارها الطبيعي، حيث كان أصحاب رؤوس الأموال من شبه الجزيرة العربية وأوروبا أول من سارع إلى القصر الرئاسي في دمشق بهدف استعادة العلاقات الاقتصادية مع سوريا بأسرع وقت ممكن والاستفادة القصوى من الوضع الإقليمي الجديد. في ٢٣ كانون الأول ٢٠٢٤، كانت قطر أول دولة أجنبية بعد تركيا[36] ترسل وفداً إلى سوريا للقاء السلطات السورية الجديدة، بينما قام الشرع بأول زيارة خارجية له في الثاني من شباط ٢٠٢٥، حيث توجه إلى المملكة العربية السعودية في زيارة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، زار خلالها مكة المكرمة وقدم شريكته لطيفة الدروبي للعالم، قبل أن يطير مباشرة إلى تركيا[37]. وبعيدًا عن الاستعراض، تشهد هذه الزيارات على الرغبة في وضع المملكة العربية السعودية وقطر في طليعة السياسة الخارجية السورية. إذ تخطط الدولتان لاستعادة السيطرة على قطاع الطاقة من خلال إحياء إنتاج الكهرباء الذي يغذيه الوقود الأحفوري الخليجي بشكل حصري تقريباً. وسيؤدي ذلك إلى حرق الكثير من الغاز[38]. بدأت الدولتان بتقديم أطنان من المساعدات الإنسانية إلى سوريا في اليوم التالي لأول اجتماعاتهما الرسمية، وتعهدتا أيضاً بتسديد ديون سوريا للبنك الدولي البالغة قيمتها ١٥ مليون دولار، في إشارة إلى وجود استثمارات كبيرة مطروحة على الورق: لا شيء مجاني. ثم كانت ألمانيا وفرنسا من أوائل الدول الأوروبية التي طرقت باب الجهاديين السابقين في الثالث من كانون الثاني ٢٠٢٥[39]، تلتهما إيطاليا في العاشر من الشهر التالي، وكانت الدول الثلاث هي المستفيد الرئيسي من صادرات النفط السورية[40] عشية ثورة ٢٠١١. كما كانت هذه الدول الثلاث أول من طبقت تعليق إجراءات اللجوء للسوريين في اليوم التالي لسقوط النظام ودعت إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، بينما كانت فرنسا أول دولة أوروبية تستقبل الشرع في السابع من أيار ٢٠٢٥، رغم استمرار إدراج اسمه على اللائحة السوداء للإرهاب. بالنسبة لماكرون، فإن حالة الاستثناء هي أسلوب من أساليب الحكم، وتوقيع العقود المثيرة يستحق غض الطرف عن جزء من مأساة الشعب السوري. ولم يُطلب من الشرع سوى الإدلاء ببعض التصريحات الرمزية لصالح حماية حقوق الإنسان والعدالة. ولكن مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن الإعلان ليس ملزماً ويبقى مجرد وعد هدفه الأساسي شراء السلم الاجتماعي وخداع أكثر الليبراليين سذاجة. إن شركاء سوريا الاقتصاديين لن يبادروا مطلقاً لجعل استعادة العلاقات التجارية مشروطة بالتطبيق الصارم، تحت إشراف دولي، لنظام ديمقراطي يمثل التنوع في سوريا وعدالة انتقالية تستثني عقوبة الإعدام والمعاملة اللاإنسانية والمهينة. بدلاً من ذلك، وكما ذكرنا سابقًا، كل ما هو مطلوب من الشرع هو التزام شفهي بـ”حماية الأقليات“ و”تحييد الدولة الإسلامية“، كما كان الحال بالفعل منذ عقد من الزمن مع بشار الأسد. وهذا ليس بالأمر الجلل.

في النظام الرأسمالي، كل شيء خاضع للصفقات والتسويات. يمكن أن ننتظر استنتاجات لجنة التحقيق في مجازر الساحل السوري بضعة أشهر أخرى، حتى يتم رفع العقوبات المفروضة على سوريا ويمكن للشرع أن يتراجع عن وعوده بهدوء بمجرد استعادة التجارة الدولية. نحن نشهد حالياً تحوّلاً تاريخياً نحو اندماج الليبرالية الاقتصادية والمحافظة المجتمعية كما حدث في الولايات المتحدة في عهد جورج بوش وابنه جورج دبليو بوش، ولكن في نسخته الإسلامية الموجودة بالفعل في المملكة العربية السعودية. لذلك يجب ألا نندهش إذا كان مصير سوريا مرهونًا بالعلاقة بين أحمد الشرع ودونالد ترامب ومحمد بن سلمان. ويأتي مقالنا هذا في الوقت المناسب تمامًا، حيث من المقرر أن يجتمع الثلاثة في المملكة العربية السعودية بعد أيام قليلة…

الشريعة الإسلامية متوافقة مع الرأسمالية، وكذلك أحمد الشرع.

 


الملاحظات

[1]ماهر علوش ( ١٩٧٦، حمص)، كاتب وباحث متخصص في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعدالة الانتقالية، حسن الدغيم (١٩٧٦، إدلب)، خريج الدراسات الإسلامية والفقه المقارن، محمد مستات (١٩٨٥، حلب)، خريج الهندسة الإلكترونية, العلوم السياسية والدراسات الإسلامية، يوسف الحجار، ومصطفى الموسى، صيدلاني وعضو في هيئة تحرير الشام، وهند قبوات ( ١٩٧٤، الهند)، حاصلة على ماجستير في القانون والعلاقات الدولية، وهدى الأتاسي، مهندسة مدنية حاصلة على شهادة في الهندسة المعمارية وتكنولوجيا المعلومات.

[2] عبد الحميد العواك الحاصل على دكتوراه في القانون الدستوري، وياسر الهويش الذي عُيّن مؤخراً عميداً لكلية الحقوق في جامعة دمشق، وإسماعيل الخلفان الحاصل على دكتوراه في القانون تخصص قانون دولي، ومحمد رضا جلخي الحاصل على دكتوراه في القانون تخصص قانون دولي، وبهية مارديني الصحفية الوحيدة الحاصلة على دكتوراه في القانون.

[3] أنس خطاب ( ١٩٨٧، ريف دمشق)، وزيراً للداخلية؛ مرهف أبو قصرة (١٩٨٤، حماة)، وزيراً للدفاع؛ وأسعد الشيباني (١٩٨٧، الحسكة)، وزيراً للخارجية والمغتربين; مظهر الويس (1980، دير الزور)، وزيراً للعدل؛ محمد أبو الخير شكري ( ١٩٦١، دمشق)، وزيراً للأوقاف؛ مروان الحلبي (١٩٦٤، القنيطرة)، وزيراً للتعليم العالي; هند قباوات ( ١٩٧٤، الهند)، المرأة الوحيدة، وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل؛ محمد البشير (١٩٨٤، إدلب)، وزيراً للطاقة؛ محمد يسر برنية، وزيراً للمالية؛ محمد نضال الشعار (١٩٥٦، حلب)، وزيراً للاقتصاد والصناعة؛ مصعب نزال العلي (١٩٨٥، دير الزور)، وزيراً للصحة; محمد عنجراني ( ١٩٩٢، حلب)، وزير الإدارة المحلية والبيئة؛ رائد الصالح (١٩٨٣، إدلب)، وزيراً للطوارئ وإدارة الكوارث؛ عبد السلام هيكل (١٩٧٨، دمشق)، وزيراً للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات؛ أمجد بدر (١٩٦٩، السويداء)، وزيراً للزراعة والإصلاح الزراعي; محمد عبد الرحمن تركو ( ١٩٧٩، عفرين)، وزيراً للتربية والتعليم؛ مصطفى عبد الرزاق (١٩٨٩، ١٩٨٩)، وزيراً للأشغال العامة والإسكان؛ محمد ياسين صالح (١٩٨٥، اللاذقية)، وزيراً للثقافة؛ محمد سامح حامدة (١٩٧٦، إدلب)، وزيراً للشباب والرياضة; مازن الصالحاني ( ١٩٧٩، دمشق)، وزيراً للسياحة؛ محمد سكاف (١٩٩٠)، وزيراً للتنمية الإدارية؛ يعرب بدر (١٩٥٩، اللاذقية)، وزيراً للنقل؛ حمزة المصطفى، وزيراً للإعلام.

[4] إلا من خلال الوكلاء.

[5]    https://www.independent.co.uk/news/world/middle-east/deal-for-joint-military-action-with-us-in-syria-could-elevate-russia-as-well-as-defeat-isis-a7237256.html

[6]https://www.middleeasteye.net/fr/news/russia-and-turkey-agree-deal-coordinate-strikes-syria-1427197601

[7]https://arabcenterdc.org/resource/jordan-and-the-us-russia-deal-in-southern-syria/

[8]       https://www.dohainstitute.org/en/PoliticalStudies/Pages/Israel-Reacts-to-US-Russian-De-Escalation-Agreement-in-Syria.aspx

[9]    راجع تاريخ اللواء الثامن التابع للعودة – https://middleeastdirections.eu/new-publication-med-the-eighth-brigade-striving-for-supremacy-in-southern-syria-al-jabassini/

[10] لا يزال حالياً في منصبه.

[11]   قُتل ما بين ٤٣٥٦ إلى ٦٤٥٦ مدنيًا وفقًا لموقع airwars.org وقتل ٨٧٦٣ مدنيًا وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان.

[12]   زهران علوش (مؤسس لواء الإسلام في أيلول ٢٠١١، والذي أصبح جيش الإسلام في ٢٠١٣)، وأحمد عيسى الشيخ (مؤسس صقور الشام في أيلول ٢٠١١)، وأبو خالد السوري وحسن عبود (مؤسسا أحرار الشام في كانون الأول ٢٠١١).

[13]   ويقال أيضًا إن أنس حسن خطاب كان ضابط اتصال لأجهزة الاستخبارات التركية (MIT). ويُعتقد أنه كان يعمل تحت إمرة الضابط في جهاز المخابرات التركية (MIT) كمال إسكندرون، المعروف لدى الجهاديين باسم أبو فرقان، الذي كان هو نفسه تحت إمرة هاكان فيدان، ثم إبراهيم كالين، رئيسي المخابرات التركية من عام ٢٠١٠ إلى ٢٠٢٣ ومنذ عام ٢٠٢٣. بعد ١٥ عامًا من التعاون الوثيق، كان إبراهيم كالين وهاكان فيدان أول المسؤولين الأجانب الذين زاروا دمشق بعد سقوط نظام الأسد. وشوهد الأول يصلي مع الشرع في الجامع الأموي في ١٢ كانون الأول ٢٠٢٤، بينما احتفل الثاني مع الشرع بانتصار تركيا على مرتفعات قاسيون في ٢٢ كانون الأول ٢٠٢٤.

[14]   ومن بين قادة المعارضة الحاضرين في الأستانة محمد علوش (جيش الإسلام)، وفارس البيوش (جيش إدلب الحر)، وناصر الحريري (الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة السورية)، وأبو أسامة الجولاني (الجبهة الجنوبية المؤلفة من ٥٨ فصيلاً معارضاً). وتشارك إحدى عشرة مجموعة أخرى في المفاوضات.

[15]   عبد الرحمن حسين الخطيب الملقب ”أبو حسين الأردني“ (أردني، لواء)؛ عمر محمد الجفتاشي الملقب ”المختار التركي“ (تركي، لواء)؛ عبد العزيز داود خدابردي الملقب ”أبو محمد التركستاني“ أو ”الزاهد“ (صيني، لواء)؛ عبد السمريز جشاري المكنى ”أبو قتادة الألباني“ (الباني، عقيد)؛ علاء محمد عبد الباقي (مصري، عقيد)؛ مولان طرسون عبد الصمد (طاجيكستاني، عقيد)؛ ابن أحمد الحريري (أردني، عقيد)؛ عبد السلام ياسين أحمد (صيني ويغور، عقيد) …

[16]   وقادة هذه المجموعات هم، على التوالي، القائد السابق للحرس الجمهوري الأسدي مقداد فتيحة والقائد السابق للفرقة الرابعة المدرعة في الجيش العربي السوري غياث دلة ومنذر و.

[17]   وبعد أن أدركت السلطات حجم المشاركة الطوعية في الهجوم – ولا شك الفوضى العارمة التي أعقبت الساعات الأولى من الاشتباكات – أعلنت السلطات لاحقاً أن هذا الدعم لم يعد ضرورياً.

[18]   تختلف الأرقام وفقًا للمصدرين الرئيسيين: المرصد السوري لحقوق الإنسان والشبكة السورية لحقوق الإنسان.

[19]   عُين حسين السلامة رئيسًا للمخابرات خلفًا لأنس خطاب، وعامر نامس العلي رئيسًا للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش (مكافحة الفساد)، والشيخ رامي شاهر الصالح الدوش رئيسًا للمجلس الأعلى للقبائل والعشائر. وينحدر الثلاثة من بلدة الشحيل في محافظة دير الزور التي يقل عدد سكانها عن ١٥ ألف نسمة.

[20]   والتي ليست سوى نسخة عربية إسلامية من الفاشية الأوروبية.

[21]   أما الشبيحة فهم أنصار النظام وأتباعه ومرتزقته، وقد تم دمج معظمهم في قوات الدفاع الوطني وغيرها من المجموعات شبه العسكرية.

[22]   على حد تعبير وزير الخارجية السوري الجديد أسعد الشيباني خلال كلمته في المؤتمر التاسع للمانحين من أجل سوريا في بروكسل في ١٧ آذار ٢٠٢٥.

[23]   والمرشدية هي ديانة حديثة تأسست عام ١٩٢٣ في منطقة اللاذقية على يد سلمان المرشد. وهذه الديانة مشتقة من العلوية ولا يوجد لها أتباعها إلا في سوريا، حيث يتراوح عددهم بين ٣٠٠ ألف و٥٠٠ ألف.

[24]   يمكنكم الاطلاع على خريطة الوقائع التي أوردها المرصد السوري لحقوق الإنسان على الصفحة الرئيسية لموقعنا الإلكتروني: https://interstices-fajawat.org/fr/accueil/

[25]   كما هو الحال بالفعل مع فصيل جيش الإسلام الذي اعتُقل اثنان من أعضائه هما مجدي نعمة الملقب بإسلام علوش وعصام البويضاني الملقب بأبو همام، وتمت ملاحقتهما قضائيًا في إجراءات قانونية دولية قبل أن يتم منحهما الحصانة الدبلوماسية.

[26]   https://english.enabbaladi.net/archives/2025/02/transitional-justice-in-syria-steps-to-diffuse-tension/

[27]   ttps://english.enabbaladi.net/archives/2025/02/former-syrian-interior-minister-mohammad-al-shaar-surrenders-to-authorities/

[28]   وفي أعقاب هذه الزيارة المثيرة للجدل، اعتقل الأمن العام بشكل سري قائد الفرع المحلي لقوات الدفاع الوطني غدير السالم، ثم -مع مزيد من الضجة الإعلامية- ثلاثة من مرؤوسيه وهم منذر الجزائري وسومر محمد المحمود وعماد محمد المحمود.

[29]   هذه هي حالة : فرحان المرسومي، زعيم إحدى العشائر البدوية في دير الزور، المتورط بقوة في تهريب المخدرات إلى العراق بالتعاون مع الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد والميليشيات الإيرانية؛ أغنيس مريم دي لا كروا، رئيسة دير ”سان جاك لو موتيليه“ الكرملي في حمص، وهي متواطئة وناشطة في الدعاية لنظام الأسد; الدكتور تمام اليوسف، جراح القلب وشقيق العميد علي معز الدين يوسف الخطيب، رئيس جهاز المخابرات الجوية في إدلب، المشتبه به في الفساد والاختلاس بالتعاون مع نظام الأسد; صفوان خير بيك الملقب ”صفوان شفيق جعفر“، زعيم مافيا من جبلة وقائد قوات الدفاع الوطني، مرتبط بعائلة الأسد من خلال أبناء عم بشار الأسد، منذر الأسد وأيمن جابر – المصدر : زمان الوصل – https://www. zamanalwsl.net/

[30]   ويُقدّر عدد المفقودين بما يتراوح بين ٩٦ ألفًا و١٥٨ ألفًا، بما في ذلك حالات الاختفاء القسري المنسوبة إلى نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية وقوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة المسلحة والجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام.

[31]   لم تحصل عائلات المختفين الذين مثلتهم ”الحملة السورية“ على لقاء مع الشرع في شباط ٢٠٢٥ إلا من خلال الظهور العلني والتجمّعات خلال الأشهر الثلاثة التي تلت سقوط النظام. https://diary.thesyriacampaign.org/my-father-is-still-missing-join-wafas-struggle-to-uncover-the-truth-about-syrias-disappeared/

[32]   في تاريخ ٢٠ كانون الأول ٢٠٢٤، حثت رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا ومنظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش ولجنة التحقيق الدولية المستقلة التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الحكومة الانتقالية على اتخاذ خطوات لحماية الأرشيف والأدلة على الفظائع التي ارتكبت على نطاق واسع.  https://reliefweb.int/report/syrian-arab-republic/syria-preserve-evidence-mass-atrocities-enar

[33]   وقد تم تجميد عمليات السحب من ماكينات الصراف الآلي، في حين شهد عدد كبير من موظفي الخدمة المدنية انقطاع رواتبهم.

[34]   تأرجح سعر الصرف بين عشرة آلاف و ١٢ ألف ليرة مقابل الدولار الواحد خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام ٢٠٢٥، مقارنة بسعر ١٤,٧٥٠ ليرة قبل سقوط النظام، و ١٥ ألفًا في اليوم التالي، وانخفاض استثنائي إلى ثمانية آلاف في بداية شهر شباط.  https://www.sp-today.com/en/currency/us_dollar/city/damascus

[35]   https://english.enabbaladi.net/archives/2025/02/turkish-goods-undermine-local-products-in-syria

[36]   أعيد افتتاح السفارة التركية في دمشق في ١٤ كانون الأول بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية لمدة ١٢ عاماً، وزار وزير خارجيتها هاكان فيدان الشرع رسمياً في ٢٢ كانون الأول، عشية زيارة قطر.

[37]   يجب تمييز علاقة سوريا مع تركيا عن علاقتها مع قطر والمملكة العربية السعودية. ففي حين تتسم الأولى بشكل أكبر بنوع من التبعية العسكرية والاستراتيجية، والتي تنطوي على شكل من أشكال التمدد الاستعماري والقبضة الأمنية التركية على سوريا، فإن العلاقة الثانية اقتصادية بالدرجة الأولى.

[38]   من المتوقع أن تنتج محطة كهرباء دير علي ٤٠٠ ميغاواط يوميًا عن طريق حرق الغاز الطبيعي الذي تورده قطر عبر الأردن.

[39]   لا يزال أحمد الشرع على قائمة الإرهاب الدولي تحت اسمه الحركي ”أبو محمد الجولاني“، لكن الولايات المتحدة ألغت الوعد بمكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يقبض عليه.

[40]   كانت الدول المستوردة الرئيسية للنفط الخام السوري في عام ٢٠١٠ هي ألمانيا (٣٢٪) وإيطاليا (٣١٪) وفرنسا (١١٪) وهولندا (٩٪) والنمسا (٧٪) وإسبانيا (٥٪) وتركيا (٥٪).

en 2010 : Allemagne (32%), Italie (31%), France (11%), Pays-Bas (9%), Autriche (7%), Espagne (5%) et Turquie (5%).

ماذا وراء العنف الطائفي ضد الدروز في سوريا؟ – أيار/ مايو ٢٠٢٥

خلال الأسبوع الماضي، عانت الطائفة الدرزية في سوريا من هجوم غير مسبوق من قبل الجماعات المسلحة الطائفية والإسلامية، بدعم سلبي من الحكومة الجديدة في دمشق. نحن الآن في سوريا، وعلى مقربة من مسرح الأحداث. إليكم وصفنا وتحليلنا.

٢٧ نيسان/أبريل

انتشر تسجيل مزيف على وسائل التواصل الاجتماعي، يُسمع فيه صوت غير معروف يسيء للنبي محمد، مما أثار أعمال شغب طائفية من قبل الإسلاميين في جامعة حمص، بقيادة الطالب في كلية الهندسة البترولية عباس الخصواني. كان هذا المحرض الإسلامي يلقي خطاباً حاقداً يستهدف العديد من الطوائف الدينية بما في ذلك الدروز والعلويين والأكراد. وفي أعقاب هذا الخطاب، تظاهر عشرات الأشخاص الذين كانوا يرددون شعارات طائفية وحاقدة في مجمع الجامعة واعتدوا على الطلاب غير المسلمين. وسرعان ما نفى الشيخ الدرزي العجوز مروان كيوان المتهم بأنه صاحب التسجيل هذا الاتهام. ويذكر أن محمداً ليس نبياً عند المسلمين السنة فقط، بل عند الدروز أيضاً. وقد نشرت السلطة غير المنتخبة في دمشق بياناً صحفياً ركيكاً شكرت فيه مثيري الشغب على جهودهم في الدفاع عن نبيهم، بدلاً من أن تحاسبهم على الاضطرابات الخطيرة التي أثاروها.


عباس الخصواني ليس طالباً في الدراسات الإسلامية، وقد تم التعرف عليه كأحد منفذي الهجمات المسلحة على الساحل السوري قبل شهرين. لم يتم اعتقاله وعاد في الأيام التالية إلى الجامعة حيث قام هو وزملاؤه بتهديد حياة طلاب آخرين.


٢٩ نيسان/أبريل

نفى وزير الداخلية السوري صحة التسجيل الذي أثار أعمال شغب عنصرية وطائفية قبل يومين، لكن الأمن العام لم يحرك ساكناً لمنع تطور الأحداث. وهكذا، هاجمت مجموعات مسلحة مجهولة الهوية بلدة جرمانا مستهدفةً سكانها وفصائل الدفاع الذاتي المحلية الدرزية. تدخّل الأمن العام وزُعم أن الفصائل المحلية استهدفتهم في حين أن الفرق بين المهاجمين الأوائل وعناصر الأمن العام القادمين حديثًا لا يزال غير واضح. وعرّف السكان المحليون المهاجمين المجهولين على أنهم فصائل عشائرية من عشيرة العكيدات في دير الزور.


قُتل ١٧ سوريًا معظمهم من المهاجمين. ثم تم تقديمهم جميعاً على أنهم عناصر من الأمن العام بينما تم تقديم الفصائل المحلية على أنها المسؤولة عن الاشتباكات. من الضروري أن نتذكر أن جرمانا ليست منطقة درزية فقط، بل هي تمثل تنوع النسيج الاجتماعي السوري بما في ذلك اللاجئين من فلسطين والعراق.

٣٠ نيسان/أبريل

على غرار ما حدث في جرمانا، هاجمت مجموعات إسلامية مسلحة من درعا ودير الزور والغوطة بلدتي صحنايا وأشرفية صحنايا مستهدفةً سكانها وفصائل الدفاع الذاتي المحلية الدرزية. قُتل ٤٥ سوريًا، معظمهم من الطائفة الدرزية، من بينهم عشرة مدنيين تم إعدامهم ميدانيًا. وكان من بينهم رئيس بلدية المدينة حسام ورور مع ابنه حيدر. وقد شوهد وهو يرحب بقوات الأمن العام قبل ساعات من اغتياله.


من الضروري أن نتذكر أن صحنايا وأشرفية صحنايا ليستا منطقتين درزيتين فقط. من جهة أخرى، غادرت فصائل درزية من السويداء المحافظة لنجدة أبناء مجتمعهم الذين تعرضوا للهجوم في صحنايا وأشرفية صحنايا، لكنهم تعرضوا لكمين قرب قرية براق على طريق دمشق من قبل مجموعات مختلطة من العشائر المحلية وإسلاميين من درعا ودير الزور، وكذلك عناصر من الأمن العام. هناك فيديو يظهرهم بوضوح وهم يطلقون النار ويقفون جنبًا إلى جنب. قُتل ٤٢ سوريًا، معظمهم من الفصائل الدرزية، وكانت بلدة صلخد الأكثر تضررًا، حيث سقط ١١ شهيدًا من فصيلي الدفاع الذاتي من قوات العليا وقوات شيخ الكرامة، بمن فيهم قائدهم أمجد بالي.

الأول من أيار/مايو

هاجمت مجموعات مسلحة مجهولة المصدر خلال الليل بلدات الصورة الكبيرة والثعلة والدور وعرى وكناكر ورساس، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع فصائل الدفاع الذاتي المحلية وقصف لمنازل المدنيين. ووضعت جميع فصائل السويداء المؤلفة من أكثر من ٨٠ ألف مقاتل في حالة استنفار قصوى وانتشرت في جميع النقاط الاستراتيجية في المحافظة. وفي المساء، قام الأمن العام بتطويق المحافظة، بزعم منع أي هجمات أخرى من درعا. ومع ذلك، هاجمت عدة مجموعات مسلحة بلدات لبين وحران والدور وجرين، حيث قوبلت بمقاومة قوية أسفرت عن مقتل معظم المهاجمين. لم يُعرف عدد الضحايا، لكن تم التعرف على هوية المهاجمين الذين ينتمون إلى العشائر المحلية.


تم الضغط على جميع زعماء الطائفة الدرزية من قبل السلطة المركزية في دمشق للاتفاق على نزع سلاح الفصائل المحلية المتهمة ظلماً بالمسؤولية عن الاضطرابات. وفي الليل، أصدرت القيادة الدرزية بياناً للإبلاغ عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه، لكن الأمر بقي غير واضح المعالم حتى اليوم التالي، حيث انتشرت معلومات متناقضة ومزيفة. استغلت إسرائيل الموقف لتهديد سوريا، فقامت بقصف القصر الرئاسي في دمشق، بزعم ”تحذير“ السلطة السورية من التهديدات التي يتعرض لها الدروز.

من ٢ إلى ٤ أيار/مايو

في ٢ أيار/مايو، حلقت طائرة إسرائيلية بدون طيار فوق السويداء واستهدفت مزرعة في كناكر، مما أسفر عن مقتل أربعة من سكانها الدروز. أحدهم، عصام عزام، الذي كان معروفًا بكونه مؤيدًا نشطًا للاحتجاجات في ساحة الكرامة ضد نظام الأسد. وفي الليلة التالية، شنت الطائرات الإسرائيلية سلسلة من الغارات على مواقع عسكرية في درعا ودمشق وحماة. وفي الثالث من أيار/مايو، اغتيل في عقربا المجاورة لجرمانا المحامي الدرزي خلدون صياح المحثاوي الذي شارك في التفاوض لإطلاق سراح محامٍ آخر اختطف شمال السويداء. وفي اليوم نفسه، تم تشييع شهداء صلخد الأحد عشر الذين سقطوا في اليوم نفسه بعد مراسم جمعت آلاف المشيعين في مسقط رأسهم، بحضور الأمير حسن الأطرش وشيخ العقل حمود الحناوي.


وفي الرابع من أيار أصدرت القيادة الدرزية بياناً من خمس نقاط تنص على تفعيل الشرطة والأمن العام في محافظة السويداء بشرط أن يكون جميع أفرادها من أبناء المنطقة، وكذلك تأمين الطريق إلى دمشق بالإضافة إلى وقف إطلاق النار في جميع المناطق التي شهدت اشتباكات خلال الأيام الأخيرة. وكان ليث البلعوس، قائد فصيل ” مضافة الكرامة“، الذي شارك بفعالية في التفاوض على دخول الأمن العام إلى محافظة السويداء، قد تم طرده من بلدته المزرعة من قبل أهاليها بعد أن قام بتأمين دخول عدد من سيارات الأمن العام إليها.

٥ أيار/مايو

كانت الاشتباكات بين العشائر والفصائل الدرزية في محيط الثعلة وحران في السويداء لا تزال مستمرة حتى اليوم. وبعد انسحاب الأمن العام من بلدة الصورة الكبيرة، دخلت شرطة السويداء مع المحافظ مصطفى بكور إلى البلدة فوجدوا عدة منازل محروقة ومنهوبة، وكذلك المقام الدرزي في القرية.


ومن الملاحظ أن البلدة الوحيدة التي تعرضت منازلها للنهب والتخريب في السويداء هي البلدة التي انتشرت فيها قوات الأمن العام. في الوقت نفسه، سرت شائعات عن تهديد الفصائل الدرزية للمساجد، في حين أنّ الفصائل الدرزية قد انتشرت في الواقع لحماية المقامات الدينية الإسلامية. ونفى العديد من أئمة المنطقة وممثلو القبائل البدوية المحلية هذه الشائعات عن تهديدات طائفية من قبل الدروز تجاه المسلمين، مؤكدين على التعايش السلمي داخل المحافظة وضرورة التصدي ”للأخبار الكاذبة“ والتحريض الطائفي على وسائل التواصل الاجتماعي.

الاعتداءات الأخيرة على الطائفة الدرزية: النقاط الرئيسية


التسجيل الذي أشعل شرارة الغضب الطائفي كان مزيفًا، ولم يتم القبض على المسؤول عن أعمال الشغب العنصرية في جامعة حمص;

الجناة الوحيدون هم مجموعات مسلحة ذات انتماءات سلفية، ولكن لم يتم تسميتهم في أي لحظة من قبل السلطات، ولم يتم تحديد أفرادها الذين قتلوا في الاشتباكات بشكل رسمي باعتبارهم الجناة الرئيسيين;

كان الوضع إما مفتعلاً أو مستغلاً من قبل السلطة المركزية في دمشق للضغط على فصائل الدفاع الذاتي للطائفة الدرزية وتبرير نزع سلاحها;

تمت مكافأة زعماء الطائفة الذين لهم سلطة على العشائر المشتبه في وقوفهم وراء الهجمات المسلحة بأعلى مناصب السلطة في أجهزة الدولة الجديدة;

قامت السلطات ووسائل الإعلام بتعزيز أو السماح بموجة من الكراهية الطائفية على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهام الضحايا زوراً بالمسؤولية عن الاشتباكات بالإضافة إلى مهاجمة قوات الأمن العام;

قامت السلطات بمحاصرة منطقة السويداء، مما أدى إلى إثارة الخوف بين سكانها، في حين عجزت عن ضمان واستعادة سلامة مستخدمي طريق 110 المؤدي إلى دمشق;

ترفض غالبية السكان والفصائل الرئيسية في منطقة السويداء تلك التي كانت موجودة قبل سقوط نظام الأسد والتي كانت شرعية في الحراك الثوري التدخل الإسرائيلي وتصر على وحدتها مع باقي السوريين;

الخلاصة


بعد مرور أسبوع من العنف، تواصل حكومة دمشق إنكار وجود وهوية الجماعات المسلحة المسؤولة عن الهجمات على أكثر من عشر بلدات سورية وسكانها. كل ذلك رغم أن مصادر عديدة تشير إلى تورط بعض العشائر البدوية في الهجوم، بالإضافة إلى مجموعة تدعى ”بركان الفرات“ التي تتفاخر بالاعتداء على مجموعة ”تلغرام“ التابعة لها.

ومن النتائج المثيرة للقلق في هذه الأيام الثلاثة، تعيين الشرع لثلاثة أعضاء من اتحاد قبائل البدو من قبيلة العقيدات من الشحيل (دير الزور) ذات النفوذ الكبير، في مناصب قيادية: حسين السلامة كرئيس لجهاز المخابرات، خلفاً لأنس خطاب، وعامر نامس العلي كرئيس للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش (مكافحة الفساد)، والشيخ رامي شاهر الصالح الدوش كرئيس للمجلس الأعلى للقبائل والعشائر.

ويمكننا أن نتساءل بشكل مشروع عما إذا كانت السلطة في دمشق تتمتع بحرية التصرف، أم أنها تتعرض لضغوط من هياكل السلطة التقليدية التي دمرت حياة السوريين منذ نصف قرن أو أكثر.

والسؤال الرئيسي هو: من المستفيد من نزع سلاح فصائل الدفاع الذاتي للطائفة الدرزية؟

في جرمانا، تضمنت الاتفاقات نزع السلاح التدريجي للفصائل المحلية التي بدأت بتسليم أسلحتها الثقيلة. ومن ناحية أخرى، لم يُطلب من الفصائل المسلحة التي هاجمتهم تسليم سلاحها

الدروز في لبنان وسوريا، تاريخ طويل من التمرد

الدروز هم طائفة دينية تنتمي إلى مذهب غير أرثوذكسي من الإسلام الشيعي الإسماعيلي، الذي نشأ في مصر تحت قيادة الإمام حمزة بن علي بن أحمد في أوائل القرن الحادي عشر. تأخذ العقيدة الدرزية اسمها من الداعية محمد الدرزي، على الرغم من أن بعض أتباعه لا يعترفون بالدرزي الذي تبرأ منه حمزة بن علي قبل إعدامه بأمر من الخليفة الحاكم بأمر الله. ويفضل الدروز تعريف أنفسهم باسم ”الموحدين“ أو ”بنو معروف“، على الرغم من أن أصل هذا المصطلح لا يزال غير مؤكد.

وتتخذ الديانة الدرزية، مثل الصوفية، نهجًا فلسفيًا وتوفيقيًا في الإيمان، ولا تعترف بالتعاليم المتشددة ولا بأنبياء الإسلام. ورغم أن هذا المعتقد انتشر في القاهرة في ظل خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي ألّهه الدروز، إلا أنه سرعان ما تعرض للاضطهاد من قبل بقية المسلمين بعد وفات الحاكم بأمر الله عام 1021، فتم نفي الدروز إلى بلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين الحالية)، وخاصة إلى جبل لبنان وحوران. ولكن في بداية القرن التاسع عشر تقريبًا اكتسبت الطائفة الدرزية في حوران بعض القوة، بعد أن طردت السلطات العثمانية جزءًا كبيرًا من أبناء الطائفة من جبل لبنان. سُمي جبل حوران بعد ذلك بجبل الدروز.

تضمّ محافظة السويداء اليوم غالبية الطائفة الدرزية في العالم، أي حوالي ٧٠٠ ألف نسمة. ويُعد الدروز اللبنانيون ثاني أكبر تجمع للدروز في العالم، حيث يبلغ عددهم ٢٥٠ ألف نسمة. في سوريا، توجد أيضاً عدة تجمعات درزية في جبل السماق (إدلب، ٢٥ ألف نسمة)، وجبل الشيخ والجولان (القنيطرة، ٣٠ ألف نسمة)، وجرمانا (ريف دمشق، ٥٠ ألف نسمة). وأخيراً، خارج سوريا ولبنان، توجد أكبر التجمعات الدرزية في فلسطين المحتلة (الجليل وجبل الكرمل، ١٣٠ ألف نسمة)، وفنزويلا (١٠٠ ألف نسمة)، والأردن (٢٠ ألف نسمة)، وأمريكا الشمالية (٣٠ ألف نسمة)، وكولومبيا (٣ آلاف نسمة)، وأستراليا (٣ آلاف نسمة).

العائلات والعشائر الدرزية الرئيسية في القرن التاسع عشر

يتم هيكلة المجتمع الدرزي على أسس عشائرية تقليدية، حيث تمارس العائلات الكبيرة نفوذاً مهيمناً. حتى منتصف القرن الثامن عشر، كانت عائلة حمدان تهيمن على حوران (أو جبل الدروز) حتى منتصف القرن الثامن عشر، وقد تحدّت عائلة الأطرش هيمنتها في خمسينيات القرن التاسع عشر. وقد حُسم الصراع بين العائلتين وحلفائهما بين عامي ١٨٥٦ و١٨٧٠ بتدخل السلطات العثمانية التي قسمت المنطقة إلى أربع نواحٍ فرعية، أكبرها كانت لآل الأطرش التي كانت تضم ١٨ قرية من أصل ٦٢ قرية في حوران آنذاك.

ذوقان الأطرش

التمرد ضد السلطة التركية العثمانية…

 

في عام ١٨٧٨، تم التشكيك في الحكم شبه الذاتي الذي حصلت عليه حوران من خلال التدخل العسكري العثماني الذي سعى إلى وضع حد للنزاعات بين الدروز وجيرانهم في السهل (درعا الآن). وفرضت السلطات العثمانية شكلاً جديداً من الحكم تحت قيادة إبراهيم الأطرش، وفرضت دفع ضرائب على الطائفة الدرزية، وخاصة على الفلاحين. وبين عامي ١٨٨٧ و١٩١٠، نشبت سلسلة من الصراعات، أولاً بين فلاحي المنطقة وعائلة الأطرش، ثم بين أخوي إبراهيم – شبلي ويحيى – والسلطات العثمانية. وفي عام ١٩٠٩، فشلت الثورة ضد العثمانيين بقيادة ابن أخيهم ذوقان الأطرش في معركة الكفر، وأُعدم في العام التالي. تولى ابنه سلطان الحكم في أثناء الثورة العربية الكبرى عام ١٩١٨…

أثناء حرب ١٩١٤-١٩١٨، ترك الحكم العثماني جبل الدروز دون مضايقة نسبياً. أقام سلطان الأطرش صلات مع الحركات القومية العربية التي شاركت في الثورة العربية الكبرى في الحجاز (السعودية) ورفع العلم العربي على قلعة صلخد جنوب منطقة السويداء وعلى منزله في القريّة. وأرسل تعزيزات قوامها ألف مقاتل إلى العقبة عام ١٩١٧، ثم انضم بنفسه إلى الثورة مع ثلاثمائة مقاتل في بصرى قبل أن يستولي على دمشق في ٢٩ سبتمبر ١٩١٨. أصبح سلطان جنرالاً في جيش الأمير فيصل ونالت سوريا استقلالها. إلا أن ذلك لم يدم طويلاً، حيث احتل الفرنسيون سوريا في تموز/يوليو عام ١٩٢٠. وأصبح جبل الدروز إحدى الولايات الخمس في المستعمرة الفرنسية الجديدة.

سلطان الأطرش

سلطان الأطرش

ثم ضد الاستعمار الفرنسي…

اشتبك سلطان الأطرش لأول مرة مع الفرنسيين في عام ١٩٢٢، عندما اعتُقل مضيفه زعيم ثوار الشيعة اللبناني أدهم خنجر في منزله في غيابه. طالب سلطان بالإفراج عنه، ثم هاجم قافلة فرنسية يُعتقد أنها كانت تقل الأسير. وانتقامًا من الهجوم، هدم الفرنسيون منزله وأمروا باعتقاله، لكن سلطان لجأ إلى الأردن حيث قاد غارات ضد القوات الفرنسية. أُعفي عنه مؤقتاً وسُمح له بالعودة إلى وطنه، ثم قاد الثورة السورية في الفترة بين ١٩٢٥ و١٩٢٧، معلناً الثورة ضد المحتلين الفرنسيين. انتصرت الثورة السورية الكبرى في البداية ثم هُزمت الثورة السورية الكبرى في النهاية على يد الجيش الفرنسي وحُكم على سلطان بالإعدام. لجأ إلى شرق الأردن، قبل أن يُعفى عنه مرة أخرى ويُدعى لتوقيع معاهدة استقلال سوريا عام ١٩٣٧. حظي باستقبال الأبطال في سوريا، وهي السمعة التي لا يزال يحتفظ بها حتى يومنا هذا. عندما فشلت المعاهدة في تأمين استقلال سوريا في أيار/مايو عام ١٩٤٥، ثار السوريون مرة أخرى ضد المحتلين الفرنسيين الذين أرسلوا الجيش الفرنسي وقتلوا حوالي ألف سوري. في حوران، هُزم الجيش الفرنسي في حوران على يد الدروز بقيادة سلطان الأطرش، قبل التدخل البريطاني الذي وضع نهاية نهائية للانتداب الفرنسي في ١٧ نيسان ١٩٤٦.

ملاحظة للمحرر: يجب النظر إلى التزام عائلة الأطرش في سياق النزعة المحافظة والقومية العربية التي لم تتحدى البنى العشائرية والأبوية والاستبدادية التقليدية. ومع ذلك، فإن معارضتهم المستمرة منذ القرن التاسع عشر للإمبريالية الأجنبية والسلطة التعسفية للقوى المركزية جعلتهم في طليعة النضالات المناهضة للاستعمار في الثلث الثاني من القرن العشرين. كما يمكن النظر إلى نضالهم على أنه يحمل في طياته بذور نضالات المجتمع المحلي من أجل الاستقلال الذاتي والدفاع عن النفس، وهو ما سيتم مناقشته في السويداء في الفترة الأخيرة ( الأعوام من ٢٠١٠ إلى ٢٠٢٠). يُعرف سلطان الأطرش أيضًا بموقفه المؤيد للتعددية الثقافية والعلمانية.

الدين لله، والوطن للجميع

مقاومة الاستعمار الإسرائيلي

 

عندما نقل البريطانيون هيمنتهم على فلسطين إلى المستوطنين الصهاينة في أوروبا وأمريكا، وبدأ الأخيرون بالتطهير العرقي للفلسطينيين منذ ١٨ كانون الأول/ديسمبر ١٩٤٧، دعا سلطان الأطرش إلى تشكيل جيش تحرير فلسطين العربي. دخل هذا الجيش بقيادة الرئيس السوري المستقبلي أديب الشيشكلي إلى فلسطين من سوريا في الثامن من كانون الثاني/يناير ١٩٤٨، في إطار الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.

كمال جنبلاط

بفارق عام واحد فقط، في الأول من أيار/مايو عام ١٩٤٩، أسس المفكر والزعيم السياسي الدرزي كمال جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي، ثم دعا إلى عقد أول مؤتمر للأحزاب الاشتراكية العربية في أيار/مايو ١٩٥١، وبدأ في إقامة صلات مع المقاومة اليسارية الفلسطينية التي جسدتها حركة الفدائيين. ثم حوّل جنبلاط الحزب التقدمي الاشتراكي إلى حركة مسلحة مندمجة في الحركة الوطنية اللبنانية، وهي ائتلاف من ١٢ حزبًا وحركة يسارية تأسس عام ١٩٦٩ لدعم منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست قبل ذلك بخمس سنوات بقيادة ياسر عرفات. ويتولى جنبلاط زعامة الحركة الوطنية اللبنانية.

وقد اتسمت الفترة الممتدة بين عامي ١٩٥٢ و١٩٧٥ بتزايد التوترات الطائفية بين الحركات اليسارية العلمانية – المناهضة للإمبريالية والمؤيدة للفلسطينيين – والنخب المسيحية المارونية المسيحية الموالية للغرب، والتي كانت تهيمن على المشهد السياسي اللبناني في ذلك الوقت. ومنذ عام ١٩٧٠ فصاعدًا، تفاقمت هذه التوترات بسبب الزيادة الكبيرة في أعداد المقاتلين الفلسطينيين في لبنان، بعد طردهم من الأردن، مما أدى إلى زيادة كبيرة في نفوذ الحركات الفلسطينية في البلاد. وبلغت هذه التوترات ذروتها في مذبحتي الكتائب المسيحية للمدنيين الفلسطينيين في عين الرمانة في ١٣ نيسان/أبريل ١٩٧٥ (٣٠ قتيلاً) وفي الكرنتينا (بين ألف إلى ١,٥٠٠ قتيل)، ثم مذبحة المدنيين المسيحيين في الدامور (١٥٠ إلى ٥٨٠ قتيلاً) في كانون الثاني/يناير ١٩٧٦.

تبنّى الرئيس السوري حافظ الأسد – حيث كان حزب البعث العربي الاشتراكي يدعم حتى ذلك الحين اليسار الفلسطيني وحلفاءه – قضية الكتائب المسيحية واقترح اتفاقاً يتضمن تقليص النفوذ الفلسطيني في لبنان. لكن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت، وفي آذار/مارس عام ١٩٧٦، ذهب كمال جنبلاط إلى دمشق للتعبير عن عدم موافقته لحافظ الأسد. في الشهر التالي، سيطرت حركة التحرير الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية على ٨٠٪ من أراضي لبنان. وخلال الصيف، ارتكبت الميليشيات المسيحية التي كانت تحاصر مخيم تل الزعتر الفلسطيني منذ بداية العام، مجزرة راح ضحيتها ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف مدني بدعم عسكري سوري. وفي نهاية مواجهة دامت ستة أشهر مع منظمة التحرير الفلسطينية وحركة التحرير، تم التوقيع على وقف مؤقت لإطلاق النار، مما أدى إلى احتلال الجيش السوري للبنان على المدى الطويل، وأدى إلى إبادة المقاومة الفلسطينية في لبنان بشكل تدريجي – ثم نهائي بعد عشر سنوات ( ١٩٨٧).

في ١٦ آذار/مارس ١٩٧٧، اغتيل كمال جنبلاط على يد مسلحين مأجورين من قبل شقيق حافظ الأسد، رفعت الأسد. حضر العديد من الشخصيات اليسارية جنازته، وألقى ياسر عرفات كلمة تأبين مؤثرة لحليفه وصديقه.

مقتطفات من فيلم ”تحية إلى كمال جنبلاط“، مارون بغدادي، ١٩٧٧، ٥٧ ملم

ملاحظة المحرر: لسنا هنا في صدد إضفاء الطابع المثالي على شخصية كمال جنبلاط، ونعتقد أن الزعماء لا يجب أن يكونوا أبطالاً أبداً. ومع ذلك، لا نعتقد أن كمال جنبلاط مذنب في أية جريمة، ولا نعتقد أنه أشاع مشاعر الكراهية على أساس الانتماء العرقي أو الديني لخصومه، على عكس ما تناقلته بعض وسائل الإعلام المحسوبة على اليمين اللبناني. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن أي حركة مسلحة ارتبطت في وقت أو آخر بارتكاب جرائم أو أعمال انتقامية أو تورطت فيها بشكل مباشر. وهذا ما حصل بشكل خاص مع الفصائل الفلسطينية المسلحة، وبالتالي مع حلفائها، كما حصل في الدامور في كانون الثاني/يناير ١٩٧٦. ومن المهم أيضًا الاعتراف عندما يخون زعيمٌ ما مصالح طائفته، كما في حالة نجل كمال جنبلاط، وليد جنبلاط. فخياراته السياسية بعد وفاة والده وحتى يومنا هذا مشكوك فيها نسبيًا، ولا يبدو لنا أنه جدير بإرث والده السياسي.

المقاومة المسلحة ضد المركزية الاستبدادية في دمشق

 

عندما اندلعت الثورة ضد بشار الأسد في عام ٢٠١١، انضم دروز سوريا إلى بقية الشعب السوري في التظاهر في شوارع السويداء وجرمانا، منطقة المجتمع الدرزي في دمشق.

وعندما انتقل الكفاح المسلح من المظاهرات السلمية إلى الكفاح المسلح، انشق الضابط الدرزي خلدون زين الدين عن جيش النظام في ٣١ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١١. وقد صرّح علانيةً ولاءه للجيش السوري الحر، وأنشأ كتيبة ”سلطان باشا الأطرش“ المؤلفة من ١٢٠ مقاتلاً درزياً.

 خلدون زين الدين

فضل الله زين الدين

انضم إليه شقيقه فضل الله زين الدين في يوليو/تموز ٢٠١٢. وبعد أن وشى بهم المخبرون، تمت محاصرتهم وقتل خلدون مع ١٦ آخرين من رفاقهم في تل المسيح في ١٣ يناير ٢٠١٣. أعلن شقيقه مقتله في بيان بعد عشرة أيام. نظّم الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني احتفالاً تكريماً له، وأصبح رمزاً للحركة الثورية والمعارضة في السويداء. في ٢١ مارس/آذار ٢٠١٣، أعلنت زوجته أميرة بحصاص على الملأ أنها هي أيضاً ستنضم إلى كتيبة زوجها الراحل، لتصبح أول امرأة من السويداء تنضم إلى الجيش السوري الحر.

خلال التظاهرات المناهضة للنظام في السويداء بين عامي ٢٠٢٣ و٢٠٢٥، عُرضت صورة خلدون زين الدين في ساحة الكرامة، حيث شارك والداه سامي وسهام بنشاط في الاحتجاجات.

أميرة بحصاص

ظهر شكل آخر من أشكال مقاومة ديكتاتورية الأسد في عام ٢٠١٣ في السويداء، بعد التجنيد القسري لعشرات الشباب من المنطقة. رفض أحد المشايخ المؤثرين في المجتمع المحلي، وحيد البلعوس، قبول مشاركة أبناء المجتمع في الحرب ضد السوريين الآخرين وعارض التجنيد الإجباري. فأسس حركة رجال الكرامة، التي اكتسبت شعبية كبيرة على مر السنين، وحالت دون تجنيد ما بين ٣٠ ألفاً إلى ٥٠ ألف شاب من السويداء.

دم السوري على السوري حرام

في عام ٢٠١٥، ندد البلعوس علناً بالديكتاتورية، مما أدى إلى اغتياله في هجوم مزدوج بالقنابل في الرابع من أيلول/سبتمبر عام ٢٠١٥. وفي مساء يوم وفاته، اندلعت احتجاجات في المنطقة وأزيل تمثال حافظ الأسد الذي كان قائماً في ساحة الكرامة. ولم يتم استبداله أبدًا. أما شقيق البلعوس، رأفت، الذي أصيب في الهجوم، فقد حل محله مؤقتًا قبل أن يتخلى عن منصبه. أنشأ نجلا وحيد البلعوس، ليث وفهد، جماعة منشقة عن رجال الكرامة، هي ”شيوخ الكرامة“، وكانا ينويان أن تكون أكثر راديكالية من الناحية السياسية من حركة والدهما. وعلى الرغم من الخلافات المتكررة، واصلت الحركتان القيام بأعمال مشتركة، بالرغم من الخلافات المتكررة، رغم تقارب رجال الكرامة مع فصيل رئيسي آخر هو قوات الجبل. وفي كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، انضمت الحركتان إلى غرفة العمليات العسكرية الجنوبية التي ضمت أيضًا فصائل درزية أخرى وشاركت في تحرير دمشق.

وحيد البلعوس

 رأفت البلعوس

ليث البلعوس

فهد البلعوس 

ملاحظة المحرر: في حين أننا هنا أيضاً يجب أن نمتنع عن إضفاء طابع مثالي على فصيل أو آخر، إلا أننا نعتبر أن رجال الكرامة والجماعات المرتبطة بها قد جسدت في السنوات الأخيرة حتمية الدفاع عن النفس وتقرير المصير لدى أبناء المجتمع الدرزي. وسواء في مواجهة محاولات جيش النظام فرض نفسه بالقوة أو الإكراه، أو في مواجهة عدوان الإسلاميين، أو في مواجهة تغوّل العصابات التي انتشرت في المنطقة، نجحت هذه الفصائل في حماية السكان المدنيين والمصلحة العامة دون ارتكاب تجاوزات أو إساءة استخدام السلطة. وقد استجاب قادتها بشكل عام لنداء المجتمعات المحلية المهددة واتخذوا موقفًا واضحًا ضد أي قوة خارجية تهدد أمن المجتمع. كما عملوا على حماية التظاهرات والثورات الشعبية، قبل أن ينضموا تلقائيًا إلى الهجوم ضد النظام في ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٤.

السويداء في قلب المسار الثوري من ٢٠١١ إلى ٢٠٢٥

 

إلى جانب الأمثلة الرمزية القليلة للمقاومة المسلحة للمركزية الاستبدادية في دمشق، لم يتوقف المجتمع المدني في السويداء عن اتخاذ موقف نقدي أو عدائي تجاه السلطة المركزية وديكتاتورية الأسد. وخلافًا للشائعات التي لا أساس لها من الصحة والتي تصور الدروز بانتظام على أنهم موالون للنظام، فإن العديد من الأمثلة تثبت أن هذا المجتمع نجح دائمًا في التوفيق بين تقاليد المقاومة ورفض الانحياز إلى طرف في صراع أصبح في وقت مبكر جدًا طائفيًا – مع وجود مكون ديني إسلامي كبير جدًا داخل الجيش السوري الحر منذ عام ٢٠١٢ – والذي أدى في النهاية إلى فنائه.

قليلون هم الذين يتذكرون أن أهالي السويداء شاركوا في انتفاضة ٢٠١١ منذ البداية. وكما ذكرنا في مقالنا الأول، نظمت نقابة المحامين في السويداء واحدة من أولى الاحتجاجات العامة في آذار/مارس ٢٠١١، وكما في أماكن أخرى في سوريا، خرج أبناء الجبل إلى الشوارع في الأسابيع التي تلت ذلك. ولإعطاء بعض الأمثلة القوية والرمزية، دعونا نذكر أن إحدى الأغاني الرئيسية للثورة هي ”يا حيف!“، التي لحنها وغناها المغني الدرزي سميح شقير (استمع إليها بالضغط هنا).

سميح شقير

ذكرنا في بداية هذا النص أيضًا تأثير عائلة الأطرش في المنطقة. فقد اتخذت ابنة سلطان الأطرش، منتهى الأطرش، موقفاً مبكراً ضد الاستبداد البعثي. في عام ١٩٩١، مزقت علناً صورة لحافظ الأسد للتنديد بتورطه مع قوات التحالف في حرب العراق. أنقذتها سمعة والدها من السجن، وانضمت إلى منظمة سواسية لحقوق الإنسان، وأصبحت المتحدثة باسمها في عام ٢٠١٠. وفي بداية الثورة، زارت مناطق الثوار ودعت الشعب السوري علناً للانضمام إلى الثورة، قبل أن تتلقى تهديدات خطيرة بالقتل، ما جعلها تتوقف عن الظهور العلني.

 أما ابنتها نائلة الأطرش، وهي مدرّسة دراما جامعية ذات علاقات وثيقة بالحزب الشيوعي السوري، فقد تعرضت لتهديدات منتظمة من قبل النظام بسبب أنشطتها التي اعتبرت تخريبية. فُصلت في العام ٢٠٠١، ووضعت تحت الإقامة الجبرية في عام ٢٠٠٨، وشاركت في بداية ثورة ٢٠١١ من خلال تنظيم مجموعات دعم للنازحين والمتضررين من النزاع، قبل أن تغادر سوريا في عام ٢٠١٢. ولا تزال نائلة حتى يومنا هذا داعمة نشطة لتحرير السوريين.

منتهى الأطرش

نائلة الأطرش

أخيرًا، ومنذ اغتيال وحيد البلعوس في أيلول/ سبتمبر ٢٠١٥، استمرت المقاومة والثورة ضد نظام الأسد في التبلور. وقد اتخذت شكل مقاومة مسلحة جسدتها عدة ميليشيات شعبية، كما ذكرنا أعلاه، لكنها تطورت أيضًا إلى حد كبير في المجتمع المدني، مع تكاثر المظاهرات والتحركات التي ازدادت حدتها وانتظامها منذ عام ٢٠٢٠، نتيجة انفجار الأسعار وغلاء المعيشة.

لإعادة قراءة تطور هذه الثورات بالتفصيل، اقرأ مقالنا الأول المنشور في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣:في جنوب سوريا، بدأت انتفاضة الكرامة“.

من الضروري أيضًا معرفة المزيد عن بنية المجتمع الدرزي لفهم أن السكان ليسوا بالضرورة خاضعين لقرارات القيادة السياسية أو الروحية. في السويداء، تتجسد القيادة الدينية في السويداء في ثلاثة مشايخ، ”مشايخ العقل“: حمود الحناوي وحكمت الحجري ويوسف جربوع. والمواقف السياسية لهؤلاء المشايخ الثلاثة ليست متطابقة ولا ثابتة، وقد تباينت علاقتهم مع نظام الأسد حسب الفترات والأحداث.

في أعقاب اغتيال وحيد البلعوس وهجوم تنظيم الدولة الإسلامية على السويداء في عام ٢٠١٨، تفاقمت الخلافات بين المشايخ الثلاثة بشكل أكبر. فبعد أن كانوا في البداية محايدين أو موالين نسبيًا لنظام الأسد، بدأوا يصبحون أكثر انتقادًا له، ولا سيما الشيخ حكمت الهجري، الذي اتخذ موقفًا أكثر وضوحًا ضد النظام وأثبت نفسه تدريجيًا كزعيم بارز للطائفة.

حكمت الهجري

حمود الحناوي

يوسف جربوع

ملاحظة المحرر: إن المواقف التي تتخذها القيادة الروحية ليست ملزمة لأبناء المجتمع الدرزي الذي يغلب عليه الطابع العلماني ولا يتبع وصاياها كما هو الحال بالنسبة للطوائف الدينية الأخرى التي تقبل بأن الدين يملي الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد دأب مشايخ الدروز على الإعلان علنًا عن دعمهم لخيارات المجتمع الدرزي واتباعهم لها. وفي الآونة الأخيرة، كان موقف حكمت الحجري الحذر والحازم في الوقت نفسه من حكومة أحمد الشرع الانتقالية، وخاصة فيما يتعلق بنزع سلاح الفصائل، موضع انتقاد كبير من قبل الكثير من الناس، الذين غالباً ما يجهلون أو يعادون أساليب الطائفة الدرزية، أو حتى يعادون الدروز بشكل عام، بدافع القومية أو الحماسة الدينية. كما أن مواقفه داخل الطائفة تتعرض للانتقاد من قبل مؤيدي نزع سلاح الفصائل، الذين يرون فيه السبب الرئيسي للعنف داخل المجتمع، ويبدو أنهم يثقون (أكثر من اللازم) في أن السلطة المركزية الإسلامية الجديدة لن (تعود) إلى تهديد الأقلية الدرزية…

الدروز وإسرائيل والإسلاميين

 

هذا الفصل الأخير ضروري في ضوء الأحداث الأخيرة المتعلقة بالطوائف الدرزية في سوريا وفلسطين، وما رافقها من جدل وشائعات. يتعلق أكثر مفهومين خاطئين مستمرين بالولاء المفترض للدروز لنظام الأسد من جهة، وتعاطفهم المفترض مع إسرائيل من جهة أخرى. وإذا كنا قد أبطلنا النظرية الأولى في الفصول السابقة، فيبدو لنا أننا بحاجة إلى إضافة بعض المعلومات الأحدث من تلك المتعلقة بزمان كمال جنبلاط لإبطال الثانية أيضاً.

تجدر الإشارة أولًا إلى أن التجمعات الدرزية في فلسطين (جبل الكرمل والجليل) تم دمجها من قبل الاستعمار الإسرائيلي عام ١٩٤٨، في أعقاب التطهير العرقي للفلسطينيين (النكبة). وعلى هذا النحو، يحمل الدروز الفلسطينيون الجنسية الإسرائيلية ويخضعون للتجنيد العسكري الإجباري. وقد قبل الكثير منهم الآن هذا الاندماج إلى درجة دعم المشروع الصهيوني وسياسة الإبادة الجماعية التي ينتهجها تجاه الفلسطينيين الآخرين. ويُعد زعيمهم الروحي موفق طريف مثالًا نموذجيًا للاندماج، فهو يقيم علاقة ودية مع الإدارة الاستعمارية وممثليها. كما أنه مقرب جدًا من بنيامين نتنياهو.

موفق طريف و بنيامين نتنياهو  

مواقع التجمعات الدرزية في بلاد الشام

الطائفة الدرزية الأخرى التي استعمرتها إسرائيل هي الطائفة الدرزية الأخرى في هضبة الجولان، التي احتلتها إسرائيل خلال حرب الأيام الستة في عام ١٩٦٧ وضمتها رسميًا في عام ١٩٨١. من أصل ١٣٠ ألف سوري كانوا يعيشون في الجولان قبل الاجتياح، يعيش الآن ٢٥ ألف درزي فقط في الهضبة، في خمس بلدات: مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة وعين قنية والغجر. ومع ذلك، لم يقبل دروز الجولان الاندماج أبدًا، وما زال حوالي ٨٠٪ منهم يرفضون الحصول على الجنسية الإسرائيلية.

ويصرّ القادة الإسرائيليون على محاولة كسب تعاطف دروز الجولان ولا يفوتون فرصة للادعاء بأنهم يدعمون الصهيونية، لكن الواقع يناقض الدعاية. عندما أطلق حزب الله في ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ صاروخًا على ملعب كرة قدم في مجدل شمس، مما أسفر عن مقتل ١٢ طفلًا من أبناء الطائفة، قوبلت الزيارات الانتهازية التي قام بها بنيامين نتنياهو وبيزميل سموتريتش إلى الموقع وإلى الجنازة بالرفض من قبل السكان الذين أطلقوا صيحات الاستهجان ووصفوهم بالقتلة.

أخيرًا، عندما اجتاز الجيش الإسرائيلي في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤ حدود عام ١٩٦٧ واجتاح القرى الدرزية في جبل الشيخ، نشرت الدعاية الصهيونية وكذلك الدعاية المعادية للصهيونية نفس المعلومات الكاذبة التي تزعم أن سكان قرية حضر يؤيدون ضمها إلى إسرائيل. وقد أطلق هذه الشائعة نضال حمادة، وهو داعية لبناني مؤيد لحزب الله منفي في فرنسا، حيث نشر على حسابه على موقع X مقطع فيديو غير منسجم مع السياق يظهر فيه رجل درزي يعلن أنه يريد إلحاق بلدة حضر بإسرائيل.

لكن في اليوم نفسه، نشر ممثلون عن الطائفة الدرزية في حضر فيديو يتضمن بيانًا يؤكد رفضهم للاحتلال الإسرائيلي وينفي الاتهامات الباطلة الموجهة للدروز.

ولسوء الحظ، غالبًا ما تنتشر الشائعات على نطاق أوسع من تلك التي تنفيها…

بيان أهالي حضر، ١٣ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٤، تلفزيون العربي

إن إدامة هذه الكذبة مفيدة لكلا الطرفين: فبينما لإسرائيل مصلحة في إضفاء الشرعية على احتلال الأراضي العربية في سوريا من خلال الادعاء بأن سكانها يريدون ذلك، فإن المعسكر الموالي لإيران له مصلحة واضحة في إبقاء أسطورة أن الأقليات في سوريا بحاجة إلى الأسد وحزب الله لحمايتها من الإسلاميين، وإلا فإنها ستلجأ إلى إسرائيل. تتغذى هذه الثنائية في التحليل على نفس المنطق الفكري المعسكري والأصولي: ”إذا لم تضعوا أنفسكم تحت حمايتي، فأنتم تستحقون أن تُضطهدوا من قبل عدوي“. وبالنسبة لكلا الطرفين، تُستخدم الفزاعة الإسلامية لتبرير إخضاع السكان المدنيين، حيث أن انعدام الأمن والخوف من البربرية (الإرهاب) هما المصدران الرئيسيان للقوى الاستعمارية لإضفاء الشرعية على انتهاكاتها لمواثيق وقوانين الحرب.

من جانبه، لم يتوقف الأسد عن تقديم نفسه كحامي الأقليات، مستخدماً الإسلاميين كبيادق لتعطيل الثورة الشعبية ضد نظامه من جهة، ومن جهة أخرى، لبث الرعب في صفوف الأقليات عندما وحيثما احتاج إلى ذلك دعماً لنبوءته: ”إما أنا أو الفوضى“. في الأسابيع التي سبقت الهجوم الدموي الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية على السويداء في تموز/يوليو ٢٠١٨ (٢٥٨ قتيلاً و٣٦ رهينة)، سحب الأسد جميع قواته من المنطقة بشكل متبجح. ثم، بعد الهجوم، عندما انتقده السكان لعدم تدخله الفوري لقطع الطريق على تنظيم الدولة الإسلامية، ردّ بأن الذنب يقع على الدروز الذين رفضوا إرسال شبابهم إلى الجيش. لكن الأسوأ من ذلك كله، أن مقاتلي الدولة الإسلامية كانوا قد نُقلوا بالحافلات من مخيم اليرموك (مخيم فلسطيني في ضواحي دمشق) إلى صحراء السويداء قبل شهر من الهجوم كجزء من اتفاق تسوية. وكأن ذلك لم يكن كافيًا، ففي تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، تم توقيع اتفاق جديد مع جيب مقاومة الدولة الإسلامية في حوض اليرموك (على الحدود مع الأردن ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل) لإجلاء إنساني جديد إلى البادية مقابل إطلاق سراح الرهائن الدروز الذين احتجزتهم الدولة الإسلامية بعد هجومها على السويداء. وتجدر الإشارة إلى أن هاتين الاتفاقيتين بين النظام والدولة الإسلامية تم تنظيمهما برعاية الروس، الذين تعهدوا في الوقت نفسه لإسرائيل بإبعاد أي تهديد من الإسلاميين، بما في ذلك حزب الله، عن حدودها.

نناقش الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية على السويداء بمزيد من التفصيل في مقالنا الأول المنشور في تشرين الأول/أكتوبر 2023:في جنوب سوريا، بدأت انتفاضة الكرامة

وفي الختام بما أن الإسلاميين كانوا في كثير من الأحيان الحمقى المفيدين للإمبريالية من جميع الأطراف، فلا عجب أن دروز السويداء ليسوا في عجلة من أمرهم لتسليم أسلحتهم للسلطة الجديدة في دمشق، حيث أن أحمد الشرع كان ممثل الحركتين الإسلاميتين ”داعش“ و”جبهة النصرة“ اللتين هاجمتا الدروز بعنف على مدى العقد الماضي. وهذا بالتأكيد لا يجعلهم بالتأكيد حلفاء لإسرائيل، مهما كان رأي مؤيدي إيران وإسرائيل.

 

دعوة إلى جميع القوى التقدمية السورية!

باستثناء المتواطئين مع نظام الأسد والسكان المدنيين الذين لا يزالون مستهدفين في شمال وشرق سوريا، فإن جميع السوريين سعداء بتحرير سوريا بفضل هجوم الثوار السوريين ودعم العديد من المجتمعات السورية التي كانت تنتظر فقط إشارة للمشاركة في التحرير.

فبعد مرور ٥٨ عاماً على واحدة من أشرس الديكتاتوريات، وليس ١٣ أو ٢٤ عاماً كما روجت وسائل الإعلام الغربية، كان السوريون بحاجة إلى ٤٨ ساعة على الأقل ليتنفسوا ويشاركوا فرحتهم اللامتناهية وبكاءهم وفرحهم بل ودموعهم التي طالما تم كبتها.

الكثيرون في الخارج لم يراعوا هذه الحاجة، واستمروا في استصغار السوريين واحتقار تطلعاتهم الديمقراطية والعلمانية، ملوحين باستمرار بالخطر الإسلامي أمام وجوهنا منذ بدء هجوم الثوار (الذي نرفض اختزاله في هيئة تحرير الشام، لأن مئات الفصائل الأخرى انضمت إلى العملية).

لم نكن بحاجة إلى من يخبرنا بذلك. لقد كنا من أوائل من عانوا من هذا التهديد، الذي لازمنا لسنوات، ولكننا نعلم أيضًا أن الجماعات الإجرامية الجهادية لم تنشأ من تلقاء نفسها. فقد وُلدت من رحم الفوضى التي أنتجتها عقود من الاستعمار والغزو المسلح والقصف العشوائي.

وبعد أن تم الاحتفال بذلك، يجب على القوى التقدمية في سوريا الآن أن تتحرك بسرعة وألا تسترخي مبكرًا. فالتهديدات بردود الفعل الرجعية والأصولية حقيقية.

لهذا السبب نريد أن نشارككم بعض المطالب الأساسية، ليتم نشرها على نطاق واسع داخل جميع المجتمعات السورية ونقلها إلى أولئك الذين سيضمنون الانتقال السياسي في سوريا.

يجب علينا:

إنهاء العنف:

  •  وضع حد فوري لجميع التدخلات العسكرية في مناطق إدلب وحلب والرقة ودير الزور والحسكة وتنفيذ اتفاقات وقف إطلاق النار بين قوات المعارضة وقوات وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية المسلحة;
  •  إدانة الغارات الجوية الأجنبية على الأراضي السورية ووضع حد نهائي لها;
  •  المطالبة بتحرير الأراضي السورية والمجتمعات المدنية التي تحتجزها الدول المجاورة والجماعات المسلحة التي تخدم مصالحها، ولا سيما إسرائيل وتركيا في الجولان والقنيطرة وغرب دمشق وإدلب وحلب والرقة والحسكة;
  •  نزع سلاح المقاتلين المسلحين غير السوريين ومطالبتهم بمغادرة البلاد أو العودة إلى ديارهم أو طلب اللجوء في سوريا، على أن يتم النظر في ذلك في ضوء التحقيقات الجدية في الجرائم التي ارتكبتها الجماعات المسلحة التي ينتمون إليها;
  •  ضمان وصول المنظمات الإنسانية الدولية غير الحكومية والصحفيين إلى الأراضي السورية.

 

تنفيذ عملية العدالة التصالحية:

  •  التوثيق (ماديًا ورقميًا) وتحليل أرشيف الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد، ثم إتاحته للاطلاع عليه من قبل المعنيين، لتمكين التظلم وجبر الضرر عن الجرائم، وكذلك محاكمة الجناة;
  •  توثيق قوائم المعتقلين وضحايا نظام الأسد (مادياً ورقمياً) والسماح بالوصول الكامل لعائلات الضحايا الذين يبحثون عن المفقودين;
  •  إدراج أسماء المتواطئين في عمليات التشهير وحماية هويتهم لمنع الانتقام الشخصي وضمان إجراءات قضائية عادلة، والتي قد تنطوي على أنماط عدالة تحويلية وتصالحية بدلاً من أنماط العدالة العقابية;
  •  اعتقال واحتجاز جميع أفراد الجيش أو جهاز الأمن أو الميليشيات المسلحة المشتبه في تورطهم المباشر في ارتكاب جرائم ضد المدنيين وجرائم الحرب في ظروف إنسانية;
  •  منع أي إذلال أو إعدام علني، والشروع في إجراءات العدالة التي تحترم الاتفاقيات الدولية المناهضة لعقوبة الإعدام;
  •  التمكين من إنشاء نظم بديلة لحل النزاعات والعدالة، والسماح للمتهمين باختيار نظام العدالة الذي يرغبون في أن يحاكموا بموجبه، مع حظر استخدام العقوبات التي تنطوي على العقاب البدني أو عقوبة الإعدام;

 

ضمان الانتقال السياسي:

  •  منع إقامة نظام سياسي قائم على أساس الانتماءات الدينية أو العرقية، لمنع التقسيم الطائفي لسوريا;
  •  منع استخدام رموز الجماعات المسلحة، وكذلك الأعلام المرتبطة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، والجماعات الإسلامية الأخرى، في المؤسسات العامة للنظام السياسي الجديد;
  •  تنظيم عملية انتقال سياسي إلى نظام فيدرالي يسمح بالتمثيل المتكافئ وغير التفرقي لمختلف الطوائف العرقية والدينية في المجتمع السوري والتي تمثل ١٪ على الأقل من المجتمع السوري: العرب السنة والعرب الشيعة والعرب المسيحيين والدروز والعلويين والأكراد والآشوريين. يجب إعطاء تمثيل نسبي للمجتمعات العرقية التي تمثل أقل من ١٪ من سكان سوريا من أجل ضمان احترام هوياتهم الخاصة وحقوقهم ذات الصلة: التركمان، والشركس، والبدو، والأرمن، واليهود المزراحيين، واليزيديين، والفلسطينيين، والرومان، والآراميين/السريان;
  •  تجميد جميع أشكال التعاون مع دولة مجاورة لا تضمن الحرية الكاملة للسكان الذين ينتمون إلى واحدة على الأقل من الطوائف السورية المذكورة أعلاه;
  •  استعادة الحريات السياسية والدينية الكاملة وغير المقيدة، فضلاً عن حرية تكوين الجمعيات وحرية التجمع وحرية التعبير وحرية الصحافة;
  •  ضمان حرية وحماية حقوق المرأة والأقليات الجنسانية;

 

وبدون تنفيذ كل هذه المطالب، فإن تقرير مصير السوريين غير مضمون، ويُخشى من عودة القوى الاستبدادية. يجب علينا أن نتحرك بشكل جماعي لمنع التاريخ من تكرار نفسه والطموحات الاستبدادية أو الرجعية التي تهدد الثورة السورية الديمقراطية والعلمانية.

لذلك يجب أن نعلن بصوت عالٍ تضامننا مع الشعوب الفلسطينية واللبنانية والكردية في مواجهة القمع والعنف غير المبرر. إن المسألة لا تتعلق بدعم الجماعات المسلحة التي تحمل صوتها، بل بإرسال رسالة واضحة لشعوبنا الشقيقة وللمدنيين الذين لا يستحقون المعاناة من تداعيات الحروب الاستعمارية.

نحن لا نريد سوى السلام والديمقراطية في سوريا والمناطق المحيطة بها.

الوضع في سوريا لم يكن يومًا أبيض أو أسود: كيف تتقاطع المصالح الأجنبية

إذا كنتم تعتقدون أن الثوار السوريين ليسوا سوى أداة بيد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية،

وأن روسيا وإسرائيل أعداء،

وأن الأسد وإيران هما ”محور مقاومة إسرائيل“ المغوار، وإذا كنتم تعتقدون أن الأسد وإيران هما ”محور مقاومة إسرائيل“ الشجاع، وأنكم لا تستطيعون دعم الشعب الفلسطيني وكذلك الشعب السوري،

إذا كنتم تعتقدون أن المسألة مجرد ”أسود وأبيض“ و” كتلة ضد كتلة“ ،

وأن السوريين لم يتحدوا جميعًا لإسقاط أحد أبشع أنظمة الإبادة الجماعية في العالم،

فاقرؤوا تحليلنا التالي:

  1. تركيا

أراد أردوغان – احتلال وطرد الأكراد من جميع الأراضي السورية فوق الطريق M4، والاستمرار في تزويد إسرائيل بـ ٣٠٪ من نفطها عبر خط أنابيب  .BTC

نحن نعتقد أن تركيا كانت بحاجة إلى قوة مسلحة؛ الجيش الوطني السوري المكون من إسلاميين ومرتزقة أجانب مطيعين لتنفيذ خططها الاستعمارية والتطهير العرقي شمال الطريق M4، بينما كانت قوة مسلحة أخرى مكونة من الثوار السوريين المتحمسين لتحرير بلادهم، هيئة تحرير الشام، توفر لها تشتيت الانتباه جنوبًا.

كما نعتقد أن تركيا لم تكن مهتمة بشكل خاص بما سيفعله المتمردون السوريون جنوب حلب، وربما فوجئت بضعف الجيش السوري واندحاره، والسرعة التي استعاد بها المتمردون غرب وجنوب سوريا، وكذلك الدعم الهائل للهجوم من المتمردين في السويداء ودرعا.

بعد اليوم الثالث من الهجوم، دعا أردوغان الأسد والثوار إلى إيجاد تسوية.

  1. إسرائيل

كان نتنياهو بحاجة إلى تركيا – لمواصلة تزويد إسرائيل بنسبة ٣٠٪ من نفطها لمواصلة الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

وأرادت إسرائيل أيضًا طرد حزب الله والميليشيات الموالية لها من كل سوريا وحماية حدودها الشمالية، أي أراضي الجولان السورية المسلوبة، من خلال إقامة منطقة عازلة على الأراضي السورية.

ونعتقد أن إسرائيل ليس لديها مصلحة في شن حرب داخل سوريا ولن تحصل على أي دعم لهذا الأمر. وعلاوة على ذلك، تواجه إسرائيل أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية ضخمة لن يساعدها فتح جبهة حرب جديدة.

إن استهداف إسرائيل لجميع المناطق العسكرية السورية ومستودعات الأسلحة السورية بعد سقوط الأسد مباشرةً يدل على أن إسرائيل لم تشعر بالتهديد من نظام الأسد: لم يسبق لإسرائيل أن قصفت الجيش السوري من قبل، بل قصفت فقط حزب الله والمسؤولين الإيرانيين في سوريا.

وقد أعلن ضباط المخابرات الإسرائيلية الأسبوع الماضي أنهم بحاجة إلى الأسد للحفاظ على الوضع الراهن الذي يضمن أمن إسرائيل.

  1. روسيا

عقد بوتين والأسد اتفاقات مع إسرائيل في عام ٢٠١٦ لضمان أمن الحدود الشمالية لإسرائيل وإبعاد حزب الله عنها. وبحلول عام ٢٠١٨، كان الروس قد أحكموا سيطرتهم على منطقة درعا من خلال دمج المتمردين السابقين في الفيلق الخامس (كتيبة “العودة” الثامنة).

وكانت روسيا والولايات المتحدة قد أبرمتا اتفاقات في عام ٢٠١٥ كجزء من ”خط فض الاشتباك“ الذي يسمح لكليهما باستخدام الأجواء السورية لتنفيذ هجماتهما ضد داعش دون أن تصطدم طائراتهما.

وقد أضعفت الحرب في أوكرانيا روسيا إلى حد كبير منذ عام ٢٠٢٢، وقلصت وجودها في سوريا إلى حد كبير. ولم يعد القصف المتواصل على منطقة الثوار في إدلب والطاقات التي تم توظيفها لإبقاء نظام الأسد العاجز في مكانه منذ عام ٢٠١٥ يستحق كل هذا الجهد.

انخرطت روسيا بنشاط مع تركيا والأمم المتحدة في اتفاقات أستانا للخروج من سوريا دون إذلال.

  1. الولايات المتحدة الأمريكية

بعد ثورة ٢٠١١ وسيطرة تنظيم داعش في ٢٠١٣، أرادت الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على مناطق شرق الفرات (دير الزور والحسكة) حيث يتواجد ٧٥٪ من احتياطي النفط السوري*، دون إشراك القوات الأمريكية على الأراضي السورية ودون دعم وحدات حماية الشعب الكردية/ وحدات حماية الشعب التابعة لحزب العمال الكردستاني.

وهكذا، قامت الولايات المتحدة بدعم وتدريب قوات سوريا الديمقراطية لصد داعش وإبقاء شرق سوريا خارج سيطرة الأسد أو إيران.

كما احتفظت الولايات المتحدة بقاعدة عسكرية على الأراضي السورية (التنف) التي لم يهددها الأسد قط، ولم تشكل تهديدًا للأسد. لم يهاجم الأمريكيون الجيش السوري أبداً.

وكانت روسيا والولايات المتحدة قد أبرمتا اتفاقات في عام ٢٠١٥ كجزء من ”خط فض الاشتباك“ تسمح لكليهما باستخدام الأجواء السورية لتنفيذ هجماتهما ضد تنظيم الدولة الإسلامية دون أن تصطدم طائراتهما. يقع مركز القيادة الأمريكية في العبيد في قطر.

أيضًا، بعد أن أعطت الولايات المتحدة الأمريكية تفويضًا مطلقًا لتركيا لقصف الأكراد في عام ٢٠١٩، بدأت قوات سوريا الديمقراطية تتطلع نحو روسيا …

  1. إيران

كانت إيران حليفًا لسوريا منذ حرب لبنان ( ١٩٨٢)، وكانت بحاجة إلى الأراضي السورية كشريان حياة لإمداد ميليشيا حزب الله بالسلاح والمال. وكانت إيران تسيطر على كامل شبكة الطرقات التي تربط العراق بلبنان، وخاصة معبري البوكمال والقصير، بالإضافة إلى منطقة تدمر الأساسية والضفة اليمنى لنهر الفرات.

في مقابل دعم إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والباكستانية والأفغانية، سمح الأسد لإيران ببناء روابط تجارية – داخل سوريا وتحويلها إلى مصنع كبتاغون عملاق، والنظام السوري إلى دولة مخدرات برئاسة شقيقه ماهر.

وبعد أن دمرت إسرائيل البنية التحتية لحزب الله وأنهكت قواته في سوريا، لم يعد لإيران مصلحة في دعم نظام الأسد والمخاطرة بتدمير ميليشياتها العراقية في مواجهة مع الثوار السوريين. ولذلك فضلت العودة إلى السيطرة على العراق. بالإضافة إلى ذلك، شاركت إيران أيضًا في محادثات أستانا مع تركيا وروسيا.

  1. جماعات المعارضة السورية المسلحة غير الحكومية

من الواضح أن هيئة تحرير الشام دخلت في مفاوضات مع وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية في ضواحي حلب منذ الأيام الأولى للهجوم، ولا يزال حي الشيخ مقصود والأشرفية تحت سيطرة وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية. وعلاوة على ذلك، فإن رغبتهم في حماية الأقليات الدينية ليست مجرد تصريح: لا توجد تقارير عن اضطهاد هيئة تحرير الشام للمدنيين منذ يوم ٢٧ نوفمبر، كما أن المجتمعات السورية رحبت بهذا الهجوم، حتى وإن كان الكثير من الناس قلقون أيضًا بشأن الأسابيع المقبلة. قامت هيئة تحرير الشام على الفور بفتح السجون وعملت على إعادة خدمات المياه والكهرباء التي قطعها النظام وقننها لسنوات، وسمحت للصحفيين الأجانب بالدخول إلى البلاد لأول مرة منذ عقود. علاوة على ذلك، أعلن زعيم هيئة تحرير الشام، الجولاني، الذي قطع علاقاته مع تنظيم القاعدة وخاض صراعًا مع الجيش الوطني السوري منذ عدة سنوات، قبل نهاية الهجوم، أنه يخطط لحل هيئة تحرير الشام وترك حكم سوريا لسلطة انتقالية مكونة من ائتلاف من مجموعات تمثل تنوع المجتمع السوري.

في هذه الأثناء، يقوم الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا بالفعل بتنظيم عملية التطهير العرقي في شمال سوريا، بهدف تنفيذ مخططات أردوغان. ومن الواضح أن هذا الهدف ليس تحرير السوريين، ومن الواضح أن غزو منطقتي تل رفعت ومنبج، وكذلك العدوان المستمر في منطقة عين العرب/كوباني بمساعدة القوات الجوية التركية، يرتبط بعدد من الانتهاكات والجرائم ضد السكان المدنيين الأكراد. وعلاوة على ذلك، فإن العناصر الأكثر تطرفًا من الجماعات الجهادية تنتمي إلى الجيش الوطني السوري، مما يجعلها تهديدًا كبيرًا لمستقبل الاستقرار في سوريا بأكملها.

فيما يتعلق بقوات سوريا الديمقراطية، نعتقد أن تسوياتهم مع الولايات المتحدة من جهة ومع نظام الأسد وروسيا من جهة أخرى، وكذلك عدم احترامهم لعادات ومطالب المجتمعات العربية في العديد من النواحي (في منبج ودير الزور وأجزاء أخرى من منطقة الجزيرة/ روجافا) جعلهم لا يحظون بشعبية كبيرة بحيث لا يمكن أن يحظوا بتعاطف السوريين الآخرين. ومع ذلك، ليس من العدل أن نعتبرهم حلفاء لنظام الأسد، حيث كان همهم الرئيسي منذ عام ٢٠١٥ هو حماية أنفسهم من مخاطر الإبادة الجماعية الجدية التي يمثلها تنظيم داعش والدفاع عن حكمهم الذاتي، الذي يعتبرونه في حد ذاته وسيلة للانفصال وحماية أنفسهم من سلطة الأسد المركزية الديكتاتورية. وبالتالي، يجب على قوات سوريا الديمقراطية والمجتمعات الكردية الدخول في مفاوضات مع السلطة الانتقالية السورية للاحتفاظ بحكمهم الذاتي، مع اقتراح دمجهم في نظام جديد على غرار النظام الفيدرالي الذي يمكّنهم من الاستفادة من نفس الحقوق والضمانات التي يتمتع بها السوريون الآخرون.

هناك العديد من الجماعات المتمردة الأخرى التي شاركت في هجوم هيئة تحرير الشام ولكنها لا تنتمي إلى الهيئة. وهذا هو الحال بشكل خاص بالنسبة إلى قوات رجال الكرامة الدرزية من منطقة السويداء، الذين قاوموا السلطة المركزية منذ عام ٢٠١١، وعرقلوا بشكل كبير تجنيد ٥٠ ألف شاب درزي من قبل جيش النظام، رافضين قتل السوريين الآخرين. وخلال السنوات القليلة الماضية، خاضت قوات رجال الكرامة معركة شاقة ضد العصابات الإجرامية التابعة للفرقة الرابعة المدرعة التابعة لماهر الأسد وحزب الله، التي طورت عدداً من عمليات التهريب في منطقة السويداء التي مكنت النظام من رفد خزائنه، وخاصةً الكبتاغون.

***

إذا كنتم لا تزالون تعتقدون بعد قراءة هذا التحليل أن السوريين غير قادرين على تحرير أنفسهم بأنفسهم ومن دون تدخل أجنبي، وأنكم تدعمون الأسد وحزب الله لأنكم تعتقدون أنهما متضامنين مع الفلسطينيين، فاقرؤوا مقالنا الموجه إلى المعسكر اليساري الغربي على هذا الرابط: https://interstices-fajawat.org/ar/ayuha_arifaq_alyasariyun_algharbiyun_laqad/ 

أيها الرفاق اليساريون الغربيون، لقد خذلتم رفاقكم من بلاد الشام.

كنا نعلم أن القضية السورية كانت الاختبار الأمثل.

لكن في المسألتين الفلسطينية والأوكرانية كانت قد أتيحت لنا الفرصة من قبل لاكتشاف الاستشراق الذي يتغلغل في الأوساط اليسارية الغربية. لقد أوهمتنا الإبادة الجماعية لإخواننا وأخواتنا الفلسطينيين بوحدة الصف، وجعلتنا نعتقد للحظة أن اليسار الغربي قد استوعب أخيرًا ما هو على المحك في القضية الاستعمارية. باستثناء اليسار الراديكالي الألماني، الغارق في شعوره بالذنب المسيحي والعاجز عن إدراك ان الوجود اليهودي الأشكنازي في فلسطين هو تجسيد للمشروع الاستعماري العنصري الأبيض. نعم، يا رفاقنا اليساريين الألمان، لقد استلهمت الصهيونية منذ أيامها الأولى من نظريات التفوق العنصري الألماني، وخاصة نظرية ”ليبنسراوم“. وقد كتب هرتزل في مذكراته أنه كان يريد تمدين اليهود الشرقيين، الذين كان يراهم عربًا. والكيبوتزات ليست استثناءً من هذا الإرث، حتى لو أطلقوا على أنفسهم اسم ”اشتراكيين“.

لكن لا يهم. كنا نظن أننا متحدون، لكن النقاشات الساخنة حول ”المقاومة الفلسطينية“ التي تجسدها حماس كانت تقودنا إلى تلك التي تدور حول ”المقاومة اللبنانية“ التي يجسدها حزب الله. كان علينا، نحن القوى التقدمية، أن نقبل بأن القوى الاستبدادية والمتطرفة أصبحت حليفة لنا، لأن المستوطن فرض علينا الفصل العنصري والإبادة الجماعية. وكالعادة، كما في أوكرانيا، أجبرتنا الحرب الإمبريالية على تقديم تنازلات لا تطاق مع قوى ظلامية وفاسدة لا تنتظر سوى الوصول إلى السلطة لتحويل مجتمعاتنا المستعمرة أصلاً إلى كابوس أصولي. لقد أصبح مضطهدونا كالعادة محور مقاومة الشر الرأسمالي الأمريكي. وبفضل مساعدة أمريكا، وبفضل إمبرياليتها وحروبها، كان علينا أن نتخلى عن النضال من أجل تحررنا: التركيز الكامل على الحرب. والحرب ليست يسارية أبدًا.

على سبيل المثال لا الحصر: دعونا لا ننسى كتابات فرانز فانون ذات الرؤية المتبصرة.

ولكن حماس ليست حزب الله. فحماس، التي لا ندعمها في ممارستها للسلطة، ولكننا ندعم نضالها المسلح ضد المستوطن في بعض النواحي، تجسد نضالاً تحررياً وطنياً يخوضه الفلسطينيون، من أجل الفلسطينيين، ضد عدو الفلسطينيين. أما حزب الله، من ناحية أخرى، فهو نتاج حرب أهلية قومية دينية ( ١٩٧٦-١٩٩٠) اقترنت بغزو أجنبي مزدوج من قبل إسرائيل وسوريا، وتدخل أجنبي من قبل إيران التي رأت في لبنان، ولا سيما في طائفته الشيعية، رصيدًا استراتيجيًا كبيرًا. لقد كان حزب الله بمثابة المرتزق لإيران وسوريا، والذي بدأ بالقضاء على حركات المقاومة الفلسطينية التقدمية والعلمانية اليسارية في لبنان، وكذلك حلفائهم اللبنانيين:

تذكروا مذبحة اللاجئين الفلسطينيين في تل الزعتر بتواطؤ من الجيش السوري.

تذكروا غضب ياسر عرفات على حافظ الأسد وانهيار التحالفات بين منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا.

تذكروا اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، صديق ياسر عرفات وحليفه، على يد أتباع الحزب السوري القومي الاجتماعي عام ١٩٧٦.

تذكروا حرمان الفلسطينيين في لبنان وسوريا من الحريات السياسية منذ عام ١٩٨٠ وحتى يومنا هذا، الذي فرضه حزب الله ونظام الأسد.

وإذا كنتم لا تتذكرون، فالرجاء أن تثقفوا أنفسكم!

لا يسعنا هنا سرد آلاف الخيانات للقضية الفلسطينية والجرائم التي ارتكبها حزب الله بحق الفلسطينيين والسوريين، فضلاً عن تسوياته مع الرأسمالية الغربية، ولكن يمكننا أن ندعوكم لقراءة كتاب جوزيف ضاهر التنويري ”حزب الله والأصولية الدينية والليبرالية“.

جوزيف ضاهر زميل يساري عربي.

تذكروا اختطاف ميشيل سورا وقتله في عام ١٩٨٥ على يد حركة الجهاد الإسلامي التابعة لحزب الله بأوامر من حافظ الأسد.

ألّف ميشيل سورا كتابًا مرجعيًا عن الديكتاتورية السورية بعنوان “سورية، الدولة المتوحشة”

 

كان ميشيل سورا رجل يساري، متزوج من كاتبة سورية هي ماري سورا. ابنتهما ليلى هي الآن خبيرة في القضية الفلسطينية وكتبت كتاب”حماس والعالم” الذي يحسن بك أن تقرأه.

لكن دعونا نعود إلى الوراء. لقد حُسم مصير السوريين والفلسطينيين، وهم شعب شقيق، بالتدخلات الإيرانية والسورية في لبنان. بدلاً من ”خُتم“، يجب أن نقول ”فُصل“.

لقد سجن حافظ الأسد الناشطين اليساريين التقدميين لسنوات، وتبعه في هذا العمل المضاد للثورة ابنه بشار.

عندما انتفض آلاف السوريين، بما في ذلك آلاف التقدميين اليساريين، ضد فاشية الأسد، شاركت إيران وحزب الله ثم روسيا بفاعلية في الثورة المضادة، فذبحت الشعب السوري وجعلت آلاف السوريين يختفون في جحيم معتقلات النظام، قبل أن تنتشر العصابات التابعة لحزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي، لتتحول سوريا إلى مصنع كبتاغون والنظام إلى دولة مخدرات.

عندما أطلق الأسد آلاف الإسلاميين لتدمير ثورة الشعب، ثم تلاعب بهم لزعزعة استقرار المقاومة المحلية يميناً ويساراً، لم تروا شيئاً.

عندما اتفق الأسد ثم الغرب وروسيا على التركيز على الخطر الإسلامي، وقعتم جميعًا في فخ الخطاب المعادي للإرهاب. ألم تعلموا أن محاربة الإرهاب في كل مكان وفي كل وقت هي حجة القضاء على الثورات؟ ألم تروا أن آلاف المجندين في تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية كانوا قبل كل شيء من غير السوريين، وكثير منهم من الغرب؟

لقد نظم تنظيم الدولة الإسلامية مجازر في باريس، ثم قطعوا الرؤوس أمام الكاميرات من الصحراء السورية، وغضضضتم الطرف عن مجازر جيش بشار والشبيحة التي تفوقها ضخامة.

هناك مثل قديم يقول ”عندما تشير إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع“. هذا ما فعله الغرب، وهذا ما فعله اليسار، حيث حكموا على الثورة السورية بالموت، وحكموا على مئات الآلاف من السوريين بالموت.

كنتم ستدعمون ثورتنا، ولقضيتم على الدولة الإسلامية في مهدها، ولما حدثت الإبادة الجماعية للأكراد.

أنتم قتلتم ثورتنا بتواطؤكم في الجريمة.

هل قرأتم كتابات ياسين الحاج صالح؟

هل قرأتم كتابات رفيقته سميرة الخليل؟

هل تعلمون أنهما سُجنا بسبب معارضتهما للنظام وعضويتهما في الحزب الشيوعي السوري؟

هل سمعتم عن الأناركي السوري عمر عزيز، الذي أثر نموذجه في بناء لجان التنسيق المحلية في الثورة السورية، إلى أن اعتقله عملاء النظام وعذبوه حتى الموت؟

هل سمعتم برائد فارس ونشاطاته السلمية بمبادرة من مظاهرات المواطنين الأحرار في كفرنبل؟

لا، أيها الرفاق اليساريون، لم تسمعوا بنا. لم تريدوا أن تروا، فقد أعماكم تعصّبكم وجهلكم بالسمات السياسية الخاصة بالمشرق العربي. وكالغربيين الطيبين طبّقتم مصافيكم وأطركم الأيديولوجية على واقعنا، ولكن أيضاً وقبل كل شيء تحليلاتكم الثنائية: ”كل أعداء أعدائي هم أصدقائي“.

هنيئًا لكم، أيها اليساريون الغربيون، لقد جعلتم من أنفسكم أفضل داعمين للفاشية الشرقية وإمبريالياتها.

والآن إلى الخاتمة، مع نظرة موجزة على القضية الفلسطينية.

هل سمعتم عن مخيم اليرموك؟ هل تعلمون أن الميليشيات الفلسطينية المنشقة عن الأحزاب التي تجسد تقليديًا المقاومة الفلسطينية اليسارية (منظمة التحرير الفلسطينية) دعمت الأسد في قمع الاندفاعات الثورية المناهضة للأسد لدى فلسطينيي اليرموك؟ هل تعلمون أنهم كانوا متواطئين في قصف أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في العالم ( ١٦٠ ألف نسمة) منذ عام ٢٠١٢، ثم في حصاره منذ عام ٢٠١٣؟

 

واقرأوا أيضاً ما قدمه الأسد وروسيا لإسلاميي اليرموك (دمشق) وحوض اليرموك (درعا) في أيار/مايو وتشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٨؟ وانظروا فقط إلى النتائج المترتبة على المجتمعات الدرزية في السويداء.

ثقفوا أنفسكم يا زملائنا اليساريين.

إذا واصلتم القراءة، انزعوا عصبة العينين وستكتشفون أن النظام السوري هو أحد القلائل في العالم الذين حظروا باستمرار جميع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. حتى أثناء الإبادة الجماعية، لم يحاول الأسد حتّى تنظيم مظاهرة وهمية لدعم دعايته المؤيدة للفلسطينيين. لا شيء.

لا شيء، إلا في إدلب والسويداء، المنطقتين الوحيدتين اللتين لا تخضعان لسيطرة النظام العسكرية. وفي كلتا المدينتين، لم يتقاعس السوريون أبدًا عن دعم إخوانهم وأخواتهم في فلسطين.

لكنكم لم تروا ذلك. لقد فضلتم أن تصدقوا أن إيران وحزب الله هما الأمل الوحيد للفلسطينيين، في حين أن حتى واحد بالمائة من صواريخهم لم تتمكن من اختراق أمن النظام الصهيوني. كل هذا مجرد كلام.

لم ينخدع السوريون يوماً بخطابات نصر الله والخميني المؤكدة وتهديداتهما البشعة وألعابهما النارية البائسة.

لكنكم أنتم، اليسار الغربي، ظننتم أنهم محور المقاومة، وطليعة النضال ضد الاستعمار.

والآن بعد أن حرر السوريون أنفسهم (ومن يهتم إن كانت تركيا قد تدخلت من الخلف، بما أنها لا تملك السيطرة على ملايين السوريين الذين تحرروا من الأسد)، انضممتم إلى الرجعيين من كل الأطياف، خاصة في الغرب، لتلقوا علينا محاضرات عن مكافحة الإرهاب.

”انتبهوا أيها العرب، إن ثواركم جهاديون لا يتحملون مسؤولية أنفسهم. سيخونونكم ويأكلونكم أحياء“.

شكرًا لكم، أيها المتفوقون البيض، على اهتمامكم. لكن فيما يتعلق بالمسألة السورية، لستم أفضل من الألمان المعادين للألمان في المسألة الفلسطينية.

نحن نعرف أكثر من أي شخص آخر في العالم ما هو الخطر الإسلامي. لقد اكتشفتموه في مركز التجارة العالمي والباتاكلان، وفجأة اضطر العالم كله أن يبكي لكم دموعًا ساخنة. ولكن هل علمتم أن أكثر من ٨٠ ٪ من ضحايا الإسلاميين منذ الثمانينيات كانوا من المسلمين والعرب؟ هل تعلمون أيضًا أن السوريين وحدهم هم من واجهوا المتعصبين الدينيين من داعش على أرضهم؟

أين كنتم لتحمونا، أنتم الذين تتعالون اليوم علينا، وقد حققت هيئة تحرير الشام في أسبوع ما كنا نحلم به منذ عقد من الزمن؟

هل قرأتم رسائل وائل الدحدوح الصحفي الفلسطيني الذي أهلكت إسرائيل عائلته بأكملها المليئة بالتضامن والمودة لإخوانه وأخواته السوريين؟

لا، مرة أخرى، لم تروا شيئًا. كل ما رأيتموه فينا هو إمكانياتنا الإسلامية. نحن العرب متخلفون جدًا لدرجة أننا لا نفهم كيف تكون الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية…

بينما انتظرت إسرائيل سقوط شريكها العزيز بشار قبل أن تهاجم السوريين في القنيطرة (وقت كتابة هذا المقال)، فها هي معسكريتكم مكشوفة للعيان، ومعها تواطؤكم مع كل القوى الأجنبية التي تستخدم أرضنا ملعباً لها.

لقد سقط الأسد، وبدأ عهد جديد للسوريين. في الأيام الأخيرة تم إطلاق سراح آلاف السجناء، بعضهم كان معتقلاً منذ ٤٠ عاماً، من أسوأ سجون العالم.

دعونا نبكي أخيرًا وننفجر فرحًا، دعونا نتنفس أخيرًا.

واعتنوا بالفاشيين الذين يفسدون ديمقراطياتكم المريحة.

ونحن سنتولى أمرنا. لا تقوموا بتحريرنا، نحن سنتولى أمرنا!